مقالات

فيدل كاسترو و الأيام "المضيئة و المحزنة"لأزمة أكتوبر

تاريخ: 

13/08/2006

مصدر: 

مجلة الأخضر الزيتوني

المؤلف: 

" نادرا ما لمعت  أكثر نجمة رجل دولة مما لمعت بهذه الأيام..."
إيرنيستو تشي غيفارا. رسالة وداع.
كان يخيم صباح يوم الاثنين 22 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1962 و طاقم حراسة قيادتين العمليات و المعلومات للأركان العامة للقوات المسلحة الثورية بدأ يمر على المكاتب و يقيظ  رفاقهم الذين كانوا يعملون إلى الساعات المتأخرة  بالليل و قد استطاع عدد قليل جدا  منهم  الذهاب  إلى بيوتهم. كان من المتوقع أن يكون الأسبوع الجديد حافل بعمل كثيف لأنه مع شعاع الشمس الأولى بدأت تصل الأخبار المقلقة أكثر فأكثر الآتية من الولايات المتحدة.
باليوم السابق، بآخر المساء، خبر بالشفرة وصل هاتفيا، من جيش الشرق وضعنا جميعنا بحالة المرصاد لأنه كان يخبر عن تعزيز القوات و الأجهزة الحربية بالقاعدة البحرية لغوانتانامو. هذه المعلومات كانت تتضمن الخبر الذي تم الحصول عليه عن طريق قناة سري، بأن قيادة ذلك الموقع كان يعد الخروج الفوري للمدنيين و أقارب العسكريين المتواجدين هناك. و قد أعطى القائد الأعلى فيدل كاسترو، منذ أواسط الشهر، تعليمات للقائد سيرهيو ديل فايي، رئيس هيئة الأركان العامة، لإبقاء حراسة متواصلة أمام زيادة العمليات العسكرية للقوات المسلحة الأمريكية بالكاريبي. 
ظهرا بيوم 22 عرف أن الناطق باسم البيت الأبيض، أخبر أهم قنوات الإذاعة و التلفزة بالولايات المتحدة  أنه بآخر المساء سيخطب الرئيس كينيدي و يوجه كلمته لكافة البلد. انطلاقا من تلك اللحظة أصبحت الصحافة تخبر عن عدد من الاجتماعات كانت تجري  بالبيت الرئاسي.  إن القائد الأعلى قدر هذه المعلومات و استنتج  أن كل هذه التحركات في البيت الأبيض كانت تتعلق بكشف الصواريخ السوفيتية  في البلد و رغم أنه لم يستطع أن يراهن بدقة بنوع الاعتداء الذي سيتم شنه و المكان الذي  سيهاجم، كان على يقين بأن الاعتداء سيجري و بالتالي قرر و أمر بالساعة 15:50 أن يضع القوات المسلحة بحالة الاستنفار للمعركة ، و بعد ذلك بقليل في الساعة 17:35 قرر أن يضع البلد كله بحالة الاستنفار للمعركة . كان فيدل قد مارس حكمة ، كان قد أخذها بالحسبان على امتداد حياته، أن لا يسمح للعدو  بمفاجأته ، فمثلما شرح بعد ذلك بأيام للقياديين العسكريين الكوبيين الذين اجتمعوا معه، "... من الأفضل مواجهة العواقب السيئة  لبذل جهود غير ضرورية ، أفضل من العواقب التي سنواجهها إذاما فاجأنا العدو 
بذلك المساء كان القائد الأعلى قد اجتمع مع وزير القوات المسلحة الثورية، القائد راؤول كاسترو، و مع القائد إيرنيستو تشي غيفارا ، و وجههما للانطلاقة فورا؛ راؤول نحو سانتياغو دي كوبا، حتى يقود جيش الشرق، أعطاه تعليمات للسفر برا و أن يقابل هوان ألميدا، قائد جيش الوسط، عندما يمر بسانتا كلارا، حتى يشرح له الوضع الذي أدى إلى التعبئة العامة للبلاد. أما تشي، كان ينبغي عليه أن ينتقل إلى بينار ديل ريو  و أن يتولى قيادة الجيش بتلك المحافظة. حضر اللقاء كذلك القائد غييرمو سينتراس فرياس، قائد جيش الغرب و سيرهيو ديل فايي. كانت تعليمات فيدل واضحة و دقيقة: اتخاذ إجراءات عاجلة للحفاظ على السكان، على القوات و على الأهداف الرئيسية المحتملة ، أي الأماكن العسكرية ، الاقتصادية، السياسية التي ربما تتعرض لهجمات  جوية من قبل العدو؛ إذا يجري التدخل العسكري المباشر من قبل الولايات المتحدة، خوض المعركة دون هوادة أمام الغازي. و خلق الظروف في المناطق الجبلية للبلد لخوض الكفاح والقيام بالعمل الفدائي في حالة احتلال بعض تلك المناطق من قبل العدو.     
أثبتت الأحداث أن الحق مع فيدل. تقريبا ساعة و نصف من إقرار "الاستنفار للمعركة"، أعلن الرئيس كينيدي، بلهجة استنكارية و باقتضاب، أن السوفيت بشكل مفاجئ و سري يقيمون قواعدا للصواريخ الهجومية بكوبا، التي هدفها: (...) ليس إلا تحضير قوة للهجوم النووي ضد النصف الغربي من الكرة الأرضية."مما" (...) يشكل تهديدا واضحا للسلام و لأمن جميع الأمريكيين...". و فيما بعد أكد على أن "هذا العمل يتناقض أيضا بالتأكيدات المتكررة التي عبر عنها الناطقون السوفيت بشكل معلن و سري بأن الأسلحة التي ووضعت بكوبا تحافظ على ميزتها الدفاعية، و أن الاتحاد السوفيتي ليست لديها ضرورة و لا رغبة في إقامة صواريخ إستراتيجية بأراضي أي أمة أخرى".(1)
بهذه الكلمات، التي تم إعدادها بدقة، للتأثير و التبرير نفسانيا أمام الرأي العام الأمريكي و العالمي ، اتخذت الإجراءات غير الشرعية  لفرض الحصار البحري على كوبا، طبقا لأوامر الرئيس كينيدي لقواته المسلحة، مما أدى إلى أخطر أزمة حدثت في النصف الثاني من القرن الماضي.و لم تكن قد اقتربت الإنسانية أبدا بمثل هذا القرب من الحرب النووية سابقا.
لم تتم مفاجأة كوبا 
لم تكن الإمكانية الواردة بالغزو العسكري من قبل الولايات المتحدة  مفاجأة لكوبا.و قد أدركت القيادة العليا  السياسية- العسكرية تحت قيادة القائد الأعلى الحقيقة، أن الامبريالية، بعد الهزيمة النكراء برمال خليج الخنازير، لم تبق عندها خيار آخر عسكريا لإسقاط الثورة إلا الاعتماد على قواتها المسلحة بتدخل مباشر و أنها ستعمل كلما بوسعها لخلق الظروف لذلك  و تبرير هذا العمل.
كنتيجة من هذا الاستنتاج اتخذت الإجراءات لضمان الأمن الوطني و الارتقاء بالقدرة الدفاعية للبلد. إن القوات المسلحة الثورية، دونما تخسر روحها الفدائي بالأصل، طرأت عليها تغيرات جوهرية بالبنية و بالتركيب العضوي.
 اعتمدت الإستراتيجية الكوبية التي وضعتها القيادة العليا للثورة على إقامة جهاز للأمن الوطني بمشاركة جماهيرية من قبل كافة الشعب حتى  لو حدث الاعتداء العسكري المباشر من قبل الولايات المتحدة، يواجه بمقاومة منيعة و شرسة  قادرة على جعل الغازي يدفع ثمنا باهظا  بالأرواح البشرية و الوسائل ، هذا الثمن الذي لا يستعد السياسيون هناك  لدفعه.
لم تبذل هذه الجهود من قبل الثورة  سدى.واصلت حكومة الولايات المتحدة حربها السرية ضد كوبا و لتحقيق هذا الهدف ووضعت مخططات جديدة عدوانية و ازدادت الأعمال السرية و التخريبية . في تشرين الثاني عام 1961 دبرت الإدارة الأمريكية مشروعا جديدا مضاد للثورة سمي عملية مانغوستا، التي كانت تنفذ خلال  عام 1962، و قد شملت جميع أشكال الاعتداء الممكنة، أي الحصار الاقتصادي، العزل السياسي الديبلوماسي، التخريب الداخلي، محاولات قتل قياديين كوبيين، و على وجه الخصوص محاولات قتل فيدل كاسترو، الحرب النفسانية، و أخيرا، الغزو العسكري. 
نشر الصواريخ السوفيتية في كوبا.
كل هذا العمل المضاد للثورة  من قبل الولايات المتحدة في ربيع ذلك العام كان يوحي بالغزو العسكري على البلد و كانت العلة لتبرير المقترح السوفيتي لنشر  صواريخ المدى المتوسط بكوبا.  إن هذه المبادرة التي شجعها بشكل رئيسي أعلى قائد الاتحاد السوفيتي آناذاك، نيكيتا كروشوف، كانت متعلقة بشكل وثيق بإقامة قواعد امريكية لصواريخ كوكب المشتري   في تركيا و ايطاليا و ما كانت تمثله من تهديد لأمن الاتحاد السوفيتي. 
"ينبغي علينا أن ندفع لهم بنفس العملة، و نجبر عليهم أن يشعروا بجسمهم بالذات ما ذا يعني العيش مستهدفا من قبل الأسلحة النووية"، كرر مرارا كروشوف لأقرب الناس إليه.(2)
بعد عملية مشاورات و نقاشات في القيادة العليا  السياسية و العسكرية السوفيتية، تم الاتفاق على تقديم المقترح  للقيادة الكوبية.
في أواخر مايو عام 1962 تم تقديم هذه المبادرة إلى القيادة العليا للثورة الكوبية، التي بعد تحليلها عميقا، قررت القبول بها. لأن هذا الإجراء كان سيكون مساهمة أممية  مهمة من كوبا لتعزيز القدرة الدفاعية للعالم الاشتراكي بمجمله. و في الواقع، كان سيساعد على الدفاع عن البلد، لأنه سيكون عامل ردع مهم.
عندما استذكر هذه الأحداث، قد شرح القائد الأعلى أنه قد أدرك فورا أن هذا المقترح يمكنه أن تحسن القدرة الدفاعية للعالم الاشتراكي بكامله، أو أنه سيساعد على تحقيق ذلك.من هذا المنطلق قبلها رغم أنه كان على يقين بأنه للدفاع عن كوبا لم تكن الصواريخ تمثل شرط لا بد منه. لأنه كان من الممكن الحصول على معاهدة عسكرية حيث يتم التعبير بوضوح أن الغزو العسكري على البلد  يعتبر اعتداء على الاتحاد السوفيتي. و بهذا  الحال لكان من الممكن  تحقيق نفس الأهداف." لم تكن تعجبنا الصواريخ، لو تعلق الأمر بالدفاع عنا فقط لم نكن نقبل الصواريخ"(3 ). لما استجبنا للمقترح السوفيتي عبرت القيادة الكوبية عن ضرورة وضع اتفاقية عسكرية و الإعلان عنها في اللحظة المناسبة أكثر.
كروشوف كان يعتقد و كان يرى أن نقل و نشر هذه الأسلحة كان من الممكن أن يتم سرا و بالكتمان، و عدم نشر الاتفاقية إلى أن تكتمل العملية. بالفرق مع فيدل و راؤول، اللذان، عندما عرفا بالتفاصيل أبعاد كل العملية، و حجم الصواريخ، كان لديهما شكوك  حول إمكانية عدم كشفها من قبل الهيئات الخاصة الأمريكية.  و لذلك خلال الزيارة التي قام بها راؤول كاسترو، وزير القوات المسلحة إلى الاتحاد السوفيتي بشهر تموز/يوليو  لمناقشة التفاصيل حول الاتفاقية العسكرية و العملية، طلب منه مباشرة القائد الأعلى  أن يسأل مباشرة كروشوف ماذا سيحصل إذا يتم الكشف عن العملية قبل اكتمالها و بهذا الشكل، إنذاره بذلك. لم يكن رد الزعيم السوفيتي مقنعا جدا، فقال لا تشغلوا بالكم لهذا الاحتمال.  و قال أنه إذا يحصل سيبعث إلى كوبا أسطول البلطيق. 
ما بين أواخر تموز/ يوليو و تشرين الأول/ أكتوبر عام 1962 تم نشر مجموعة كبيرة من العساكر السوفيتيين متكونة من 42000 رجل من مختلف الأسلحة و القوات ز قد سبب وصول هذه الوسائل إلى كوبا فضيحة متصاعدة بالصحافة  و بالدوائر السياسية في الولايات المتحدة منذ أواسط آب/ أغسطس، التي حسب التقدير الموفق لفيدل كانت تراهن بظهور أزمة خطيرة. 
أمام تلك الظروف اجتمع فيدل مع  القيادة العليا السياسية و العسكرية الكوبية لتحليل تناسب المواجهة و الرد للحملات الإعلامية  الأمريكية التي كانت تشن من خلال النشر الفوري للاتفاقية العسكرية، لأن  عدالتها، صلاحيتها و شرعيتها لا نقاش فيها. لهذا السبب قرر أن يبعث إلى موسكو  القائد إيرنيستو شي غيفارا و النقيب إيميليو أراغونيس، لمناقشة هذه الآراء مباشرة مع نيكيتا كروشوف. و مع ذلك، لم يأخذ الزعيم السوفيتي مجددا الإنذار الكوبي بالحسبان. 
بمحاولتها بالحفاظ على سرية العملية، ارتكبت القيادة السوفيتية أخطاء سياسية و عسكرية خطيرة، لأنها، بدلا عن مواجهة الضغوطات الأمريكية معتمدة على حق كوبا في  اتخاذ الإجراءات التي تضمن أمنها، بدلا عن ذلك التجأ الاتحاد السوفيتي إلى الخدعة و الكذب. 
على سبيل المثال، بيوم 11 أيلول/ سبتمبر عام 1962 بثت وكالة أنباء تاس بيانا من الحكومة السوفيتية الذي كان يؤكد من جديد فيه على نواياها بتقديم مساعدة عسكرية لكوبا  بحالة الغزو عليها . كان يدعو الولايات المتحدة إلى العقلانية. و بشكل متناقض كان يؤكد على أن "... الاتحاد السوفيتي لا تحتاج أن تنقل إلى أي بلد، مثلا كوبا، الوسائل المتوفرة لديها للرد على الهجوم و لإلحاق ضربة مضادة". (4)إن هذه المعاملة السياسية السيئة و الخشنة  أصبحت الحجة  لدى  حكومة الولايات المتحدة لتبرير ما لا يمكن تبريره، للاعتماد على الأعمال العسكرية، فرض الحصار البحري على كوبا و اتخاذ إجراءات أخرى ، بنفس الاتجاه، إذا كانت ضرورية لتحقيق أغراضها. كان تصرف القيادة الكوبية مختلفا   تماما منذ اللحظات الأولى. واجهت الدعاية الأمريكية انطلاقا من المبدأ الشرعي و الأخلاقي بأن كوبا كبلد مستقل، ذو سيادة، يمكنها الحصول على الأسلحة التي تعتبرها ضرورية  للدفاع عنها.
 علاوة على ذلك يضاف إلى المعاملة السياسية الخشنة، مواقف غير مبدئية و ملتزمة في المجال العسكري. كان السوفيت قد وضعوا  بما يناسبهم، بجميع أنحاء البلد،وحدات صاروخية مضادة للطيران، التي، لو جرى الاعتماد عليها بشكل صحيح، لتحولت إلى عامل ردع قوي  للحيلولة دون  القيام بسفرات استطلاعية من قبل الطيران الأمريكي فوق الأراضي الكوبية، و الحفاظ على السر الذي تمسكوا به على كل حال؛ كما أنهم لم يقوموا بعمل جيد في مجال تمويه و كتمان  الصواريخ الموجودة بكوبا. و قد ساعدت الأحوال الجوية السيئة السائدة بشهر أيلول/ سبتمبر و أكتوبر على عدم الكشف مبكرا على  مواقع الصواريخ  التي هي بمرحلة البناء.
تنفجر الأزمة.
بيوم 14 تشرين الأول/ أكتوبر، عندما تحسنت الأحوال الجوية كانت هناك سفرة جاسوسية للطائرة أو-2  و منها تم تصوير مواقع الصواريخ ذات المدى المتوسط في المنطقة الغربية. بيوم 16 اخبروا كينيدي عن ذلك. خلال الاسبوع اجتمعت القيادة العليا السياسية العسكرية  للولايات المتحدة لتقرر كيف تقضي على هذه المواقع، هل من خلال الحصار البحري، أو عن طريق الضربات الجوية أو  بواسطة  الغزو على كوبا. يعلن الرئيس الأمريكي قراره بفرض الحصار البحري على كوبا  بيوم 22 تشرين الأول/أكتوبر، و يطالب  بسحب  الصواريخ السوفيتية  بلا قيد و لا شرط  و تحت الإشراف و الرقابة. 
خطب القائد الأعلى بليلة 23   تشرين الأول/أكتوبر بالإذاعة و التلفزة  ليشرح للشعب الوضع القائم و لرفض الاتهامات التي شنها الرئيس  الأمريكي. فيدل أقر بوضوح أن الحكومة الكوبية  ليست مجبورة على تقديم تقرير لنشاطاتها  للولايات المتحدة و رفض أن تتمتع  تلك البلاد بحق تقرير  نوع و كمية الأسلحة التي ينبغي على كوبا امتلاكها. و حذر بشكل قاطع أنه "...قد أخذت الإجراءات اللازمة للتصدي و لرفض أي غزو مباشر" . عارض كذلك مساعي كيندي للإشراف و المراقبة على البلد. لأننا"... لن نتخل أبدا عن سيادتنا و صلاحياتنا  بان نقرر  داخل حدودنا نحن... لا أحد غيرنا (5).
إن الأخبار  العامة و السرية التي كانت تصل من موسكو إلى هافانا بذلك اليوم 23 كانت تظهر عزيمة القيادة السوفيتية بأن لا تسمح بتجسيد الأعمال الأمريكية و بعدم الرضوخ أمام مطالبها. "لم يخطر على بالنا أبدا فكرة التراجع" ، أكد فيدل لاحقا، بعد مرور السنين. كان واضحا  للكوبيين أن المهمة كانت تكمن  في التحضير الجيد للمقاومة بثبات أمام  الغزو الامبريالي، و هكذا جرت الأمور.
في صباح يوم 24 ، اجتمع القائد الأعلى  مع مجموعة من  القياديين و الضباط العاليين،. بعد الاستماع إلى التقارير حول تنفيذ الإجراءات   المطبقة لتولي الدفاع عن البلد،بدأ يحلل النواحي الأساسية المتعلقة  بحماية البلد أمام  الاعتداء الجوي. و طرح فيدل حول هذا الخصوص، لا يمكن السماح بأن تطير هذه الطائرات دون أي عقوبة،و أعطى توجيهات بدراسة الأماكن التي من الضروري فيها تعزيز الدفاع  المضاد للطيران فيها. و أعطى توجيهات بإطلاق النار  ضد الطائرات  التي تحلق أجوائنا. 
و باختتام الاجتماع دقق قائد الثورة بضرورة العمل بحل النقط الضعيفة بالدفاع دون خسارة لحظة، لأن كل الإجراءات التي تتخذ و الاحتياطات  تعتبر وقتا كسبناه. أعطى تعليمات حول الدفاع المضاد للطيران.
بالمساء زار فيدل مجموعة صواريخ أرض-جو سوفيتية، بشمال شرق العاصمة. و لاحظ هناك أن تلك الوحدات ليست منيعة أمام اعتداء الطيران على ارتفاع منخفض. و أمر فورا بنشر خمسين بطارية مضادة للطيران من احتياطه لحماية تلك المجموعات و منشآت صواريخ المدى المتوسط. 
أدركت القيادة الكوبية منذ اللحظات الأولى خطورة رحلات الطيران على ارتفاع منخفض من أراضينا. و اتخذ القائد الأعلى قرار بصباح يوم 26 للحيلولة دونها و أمر بإطلاق النار ضد أي طائرة للعدو تطير على ارتفاع منخفض و هذا انطلاقا من يوم 27. و قد سجل هذا القرار ببيان. 
و في ليلة ذلك اليوم 26 تشرين الأول/ أكتوبر بعد اتخاذ كل الإجراءات و التدقيق حتى في أصغر تفاصيل خطة الدفاع عن البلد، كان يتساءل فيدل ماذا تبقى لنا لفعله و كتب رسالة إلى كروشوف بهدف مناشدته إلى التمسك بموقف ثابت و أن لا يرتكب أخطاء لا يمكن معالجتها في حالة نشوب الحرب. 
و لكن الأمر الذي ما كان يعرفه فيدل و لا أحد بكوبا أيضا هو أنه منذ يوم 25 كانت هناك مراسلة سرية ما بين فيدل و كروشوف بحثا عن تسوية ما بين الدولتين العظيمتين. من هذه الرسائل، التي كتبها كروشوف بيوم 27 و 28  أذيعت بإذاعة موسكو بسرعة و لهذا عرف مضمونها بكوبا كذلك. و في رسالة كروشوف من يوم 28 كان يتعهد الزعيم السوفيتي  بسحب الأسلحة التي يعتبرها الأمريكان هجومية، بضمانات التحقيق، و كان يتخذ القرار دون مشاورات و من طرف واحد ، هذا مقابل عهد رئيس الولايات المتحدة بعدم الغزو على كوبا  و الحيلولة دون قيام حلفائهم بهذه الخطوة. 
إن تلك التسوية لم تحل المشكلة و كانت غير مناسبة لكوبا. بنفس يوم 28، ببيان تعرض فيدل لموقف كوبا الذي يعتمد على خمسة نقط ستوصل إلى السلام الحقيقي و أنه"(...) لم تكن هناك الضمانات التي كان كينيدي يتحدث عنها إذا لا تتخذ الإجراءات التالية إلى جانب رفع الحصار البحري الذي كان يتعهد به":
" أولا : وقف الحصار الاقتصادي و كل الإجراءات التي تتخذها الولايات المتحدة للضغط التجاري و الاقتصادي على كوبا  في كافة أنحاء العالم .
"ثانيا: وقف كل النشاطات التخريبية، قذف و إنزال  الأسلحة و المتفجرات بحرا و جوا ، وقف تنظيم  غزوات  المرتزقة،تغلغل الجواسيس و المخربين و كل هذه الأعمال تنطلق من أراضي الولايات المتحدة و أراضي بلدان حليفة لها .
ثالثا: وقف الاعتداءات القرصانية التي تشن من  قواعد موجودة بالولايات المتحدة و ببوارتو ريكو. 
رابعا: وقف جميع انتهاكات المجال الجوي و البحري من قبل طائرات و سفن حربية أمريكية. 
خامسا: الانسحاب من القاعدة البحرية غوانتانامو و استرجاع الأراضي المحتلة من قبل الولايات المتحدة. (6)
كانت خمسة نقط محددة و على أسس موقرة . ما أراد الحكماء الأمريكان أخذها بعين الحسبان و بنفس الوقت، طالبوا بالمراقبة و الإشراف على الأراضي الكوبية لتحقيق تنفيذ التعهد السوفيتي. 
فهم فيدل أن هذه المطالبة كانت تقصد إهانة البلد، إضعاف الشعب الكوبي أخلاقيا و خفض معنوياته، هز  ثقته بالثورة و إيجاد سابق دولي  يسمح للدول العظمى بالاعتماد عليه  في العمل ضد أي بلد صغير  و ضعيف، و لهدا عارض ذلك  بشكل قاطع.  
إذا كان صحيحا أن  ما يسمى بالتفاهم كينيدي كروشوف كان قد وجد حلا عن طريق المفاوضات للأزمة الخطيرة التي تهدد الإنسانية بالحرب النووية، لم يكن هذا الأمر يحل المشاكل العميقة التي أدت إليها. بالنسبة إلى كوبا كان الخطر بالاعتداء العسكري لا يزال يخيم عليها. جاءت أيام جديدة للتوتر.بتلك الوضعية الصعبة دافع القائد الأعلى بشجاعة و كرامة عن تقرير المصير و سيادة البلد  في وجه تصرف أعظم دولتين  بذلك العصر. واجه بمروة سياسة  الهيمنة و العجرفة التي تتخذها الولايات المتحدة.و ناقش مع الاتحاد السوفيتي التصرف  الذي أسفر عن إيجاد حل للصراع من طرف واحد، منطلقا من  منطق و حق الشعب الكوبي.
مراجعة لتلك الأحداث عن كثب  تسمح لنا بالرؤية الأكثر موضوعية و الهادئة حول دروسها و مغزاها لكوبا.لأنها أكدت من جديد على مفهوم فيدل بأن أمن البلد يعتمد بالدرجة الأولى على شجاعة، عزيمة و إرادة الشعب الموحد بأجمعه للمشاركة بالدفاع عنه و التضامن العالمي يمكنه أن يلعب دورا كبيرا بمقدار ما تصبح الأمة قادرة على الصمود و التصدي أمام الاعتداء الامبريالي. 
من الأيام و المضيئة و المحزنة لأزمة تشرين الأول/ أكتوبر كما وصفها تشي، تم استخلاص تجارب مريرة ولكنها مشجعة. تبرهنت قدرة الشعب الكوبي و عزيمته و إيمانه بالانتصار، هذا الشعب الذي أيد قائده ذو النجمة اللامعة عاليا جدا. 
(1)    روبيرت إيف كينيدي: ثلاثة عشر  يوم، الصفحة 129 و 131
(2)    ألكساندر ألكسيف: مقال منشور بمجلة صدى المعمورة،رقم 33، موسكو، تشرين الثاني، نوفمبر، 1988 الصفحات من 26 إلى 33
(3)    فيدل كاسترو روز: سجلات  المؤتمر الثلاثي حول أزمة تشرين الأول/ أكتوبر ، لا هافانا، كانون الثاني/ يناير عام 1992 .
(4)    أخبار اليوم، لا هافانا، يوم الخميس، 12 أيلول/ سبتمبر عام 1962.
(5)    فيدل كاسترو روز:"مداخلة بالاذاعة و التلفزيون الكوبي"، صحيفة أخبار اليوم، 24 أيلول/ سبتمبر عام 1962 ، الصفحة الخامسة. 
(6)    نفس المصدر، الصفحة العاشرة.