خطابات و تداخلات

خطاب في حفل للاحتفال بالذكرى السنوية 50 لمجلس الإنماء والإعمار، في القصر الرئاسي، 28 سبتمبر 2010

التاريخ: 

28/09/2010
يا أبناء وطننا الأعزاء،

في ذلك اليوم، الثامن والعشرين من أيلول/سبتمبر 1960 كنتُ قد وصلتُ للتو عائداً من نيويورك، حيث كنت قد شاركت على مدى عشرة أيام  في جلسات أهم اجتماع تمت الدعوة لعقده حتى ذلك الحين.

أتيحت لي الفرصة هناك للتعرف إلى أهم قادة المعسكر الاشتراكي، رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي، نيكيتا سيرغيفيتش خروتشوف، ومجموعة من أرفع قادة العالم الثالث مقاماً.

لم يكن هناك اعتراف بحق جمهورية الصين الشعبية بتمثيل ذلك البلد العظيم والعريق.

الثورة الكوبية في جزيرتنا الصغيرة وموضع التجاهل، كانت حديثة الولادة، ولكن حقيقة مجيئها إلى العالم، على مسافة تسعين ميل فقط عن الإمبراطورية الجبارة، تحوّلت إلى أمر يضع على المحك غطرسة القوة العظمى المهيمنة في نصفنا الغربي من العالم وفي جزء كبير آخر منه.

عشت تجربة فريدة من نوعها في ذلك البلد الذي هو مقر منظمة الأمم المتحدة، الأمر الذي حسم أمر التحدث إلى الجمعية العامة بكل صراحة عندما حل دوري في الكلام، وذلك في السادس والعشرين من أيلول/سبتمبر. الخطاب الذي توجّهت به إليهم شكّل بالنسبة لي استكمالاً للأفكار التي عبّرت عنها في "سينصفني التاريخ"، على أثر المحاكمة بسبب الهجوم على ثكنة "مونكادا". لم يكن الأمر يتعلّق بعملية معدّ مسبقاً، إنما كان رداً من ثائر كوبي على القهر الوحشي الذي كانت معالمه تتضح في العالم.

مع حلول الذكرى الخمسين لذلك الخطاب، قبل يومين، كان بودّي أن أكتب عن ذلك الحدث. فليس بالإمكان الفهم الجيّد للأفكار التي كرّست لها جهودي المتواضعة على مدى سنين كثيرة بدون أخذ ما قلته ذلك اليوم بعين الاعتبار.

أذكر ذلك كمقدّمة للحالة المعنوية التي شاركت بها في الاحتفال الذي تقيمونه اليوم، والامتياز الذي يعنيه بالنسبة لي الاجتماع بكم بعد ذلك الموعد بخمسين سنة.

الأغلبية الساحقة من الأشخاص المجتمعين هنا لم يكونوا قد تولّدوا بعد. والباقون كانت أعمارهم آنذاك أقل من ثلاثين سنة، كانوا شباباً أو فتية أو أطفالاً، وقليلون جداً هم الذين كانوا بعمري الحالي.

تناولتُ جوهر الأشياء، وباستخدام عبارات وفقرات حرفية، أوجزت أهم الأفكار الواردة في الخطاب الذي ألقيته تلك الليلة التي تولّدت فيها منظمتنا المجيدة. وأنتم سيروق لكم أكثر أن أكرر تلك الأفكار من أن أتحدّث عن شيء آخر.

بدأت ساعات العصر تلك بالشكوى من إقامة استقبال حاشد لي في المطار؛ كما أنه كانت توجد مشكلات هنا في مكبّرات الصوت. كانت تنقصنا الخبرة في تنظيم المهرجانات، ورويت عليكم جزءاً مما جلبته معه من انطباعات عن نيويورك، وقلت لكم: بعدما "عشت عشرة أيام في أحشاء الوحش الإمبريالي، لكي أعرف أن الاحتكار والإعلام هما ذات الشيء [...] تقوم وسائل الإعلام بمحاربتنا، ولكنهم لا يحاربوننا بحجج، لأن الحجج هي ما يفتقدونه. [...] الحكايات التي كانت ترويها علينا وكالات الأنباء الإمبريالية ومجلات الاحتكارات [...] كانت قد جعلتنا نصدّق بأن النهب جيّد، بأن السرقة هي أمر نبيل، وأن الاستغلال كان أمراً عادلاً، وأن الكذب هو الحقيقة...

[...] الصحف المستقلة، [...] الصحيفة التي تقول الحقيقة تُحرَم من الإعلانات. [...] الدافع لكل شيء هو التوق لتحقيق الربح، المصلحة الماديّة، المال، [...] كم تكون النتيجة مختلفة عندما يكون الشعب مستنيراً، عندما يكون الشعب مدركاً لما يريد، وعندما يكافح الشعب مدفوعاً بشيء ومن أجل شيء، عندما يكون لحياة الشعوب مغزى، وعندما يكون عند الشعب فكراً، وعندما يكون لدى الشعب شيئاً يكافح من أجله! كم تكون النتيجة مختلفة!

[...] نحن على أكمل ثقة أنه بالرغم من كل الشدائد التي عشناها، بالرغم من كل الاعتداءات التي تحمّلها بلدنا، لو كان هنا مقر الأمم المتحدة، على سبيل المثال، لا يقوم أي مواطن بإهانة زائر واحد، ولما تم القيام بأي عمل عدائي ضد أي وفد، لأننا نكون نحن الكوبيون قد علمنا في تلك اللحظة بأنها قد جاءت فرصة الإثبات أننا أكثر تهذيباً ألف مرة من الإمبرياليين!

[...] لقد شاهدنا حشمة، وشاهدنا نزاهة، وشاهدنا حسن ضيافة، وشاهدنا مروءة، وشاهدنا تهذيباً عند زنوج هارلم الفقراء (يُسمع حينها صوت انفجار عبوّة). أهي قنبلة؟ -سألت- (أصوات مرتفعة من بين الجمهور: ’جدار كبير‘!، ’جدار كبير‘!، سننتصر!، سننتصر!) (ينشدون السلام الوطني ويهتفون: ’عاشت كوبا! عاشت الثورة!‘) –واصلت- هذه العبوّة يعرف الجميع من دفع ثمنها.

[...] يا لهم من أغبياء! ما داموا لم يتمكنوا من فعل شيء عندما كانوا يلقون قنابل وزن 500 [...] وحتى ألف رطل تقول ’Made in USA‘ [...]؛ وبالرغم من طائراتهم ومدافعهم وقنابلهم وقبعاتهم اضطروا للاستسلام [...] ولم يتمكنوا من احتلال سييرّا مايسترا، ولم يستطيعوا التخلّص الأطواق [...] إنهم جنود العجز والجبن [...] ما دام الشعب هنا عازم على مقاومة ليس العبوات هذه فحسب، [...] وإنما هو عازم على مقاومة كل ما يقومون بإلقائه أو كل ما يسقط، ولو كانت قنابل ذريّة.

[...] مقابل كل عبوّة يدفع الإمبرياليون ثمنها سنقوم نحن ببناء خمسمائة منزل! مقابل كل عبوة [...] سنقيم ثلاثة أضعاف ما نقيمه من تعاونيات زراعية! ومقابل كل عبوة [...] نؤمّم مصنعاً يانكياً للسكر! مقابل كل عبوّة [...] نؤمم بنكاً يانكياً! مقابل كل عبوة [...] نكرر مئات الآلاف من أطنان النفط! مقابل كل عبوّة [...] نبني مصنعاً...! مقابل كل عبوّة [...] نقيم مائة مدرس في أريافنا! مقابل كل عبوّة [...] نحوّل ثكنة إلى مدرسة! مقابل كل عبوّة [...] نسلّح مائة عنصر ميليشيا على الأقل!".

(أذكر أن كل واحدة من الفقرات، وأحيانا كل عبارة، وجدت تصفيقاً حاداً وهتافات حماسية من الجماهير).

وواصلت: "[...] يبدو أنهم قد صدّقوا بالفعل أن قوات ’المارينز‘ آتية، [...] وأن القهوة جاهزة لتناولها... سوف نقيم نظام مراقبة جماعية؛ -وكررت- سوف نقيم نظام مراقبة ثورية جماعية!

[...] سنرى كيف سيتمكّن أذناب الإمبريالية من التحرك هنا؛ فنحن في نهاية المطاف نعيش في كل أنحاء المدينة، ليس هناك من مبنى سكني من المدينة، وليس هناك من مفرق أو مربّع في المدينة أو حي، لا يحظى بتمثيل واسع هنا. في وجه حملات الاعتداءات الإمبريالية، سوف نقيم نظام مراقبة جماعية ثورية يعرف الجميع من خلاله من يعيش في هذا المربّع، وماذا يفعل الذي يعيش في المربّع، وأي علاقات يقيم مع النظام المستبد البائد، وما الذي يفعله؛ ومن يعاشر، وما هي النشاطات التي يقوم بها. يا لها من مفاجأة ستكون بانتظارهم! لأننا سنقيم نظام مراقبة ثورية في كل مربّع سكني، لكي يقوم الشعب بالمراقبة، لكي يقوم الشعب بالملاحظة، ولكي يروا بأنه حين تتنظّم جماهير الشعب، ليس هناك من إمبريالية، وليس هناك من أذناب للإمبرياليين، ولا بائعين أنفسهم للإمبرياليين، ولا أدوات لإمبرياليين، يستطيعون أن يتحركوا هنا.

[...] إنهم يلعبون مع الشعب وهم لا يعرفون بعد من هو هذا الشعب؛ إنهم يلعبون مع الشعب، ولا يعرفون بعد القوة الثورية الهائلة الموجودة عند هذا الشعب. [...] لا بد من القيام بخطوات جديدة في تنظيم الميليشيات، لا بد من التوجه من الآن نحو تكوين كتائب الميليشيات، منطقةً منطقة، في جميع أقاليم كوبا، والأخذ باختيار كل إنسان لكل قطعة سلاح، والأخذ بهيكلة كل هذه الكتلة الواسعة من الميليشيات، لكي تكون وحداتنا القتالية على درجة كاملة من التأهل ومن التدريب".

(أحد ما من الجمهور اقترح إجراءاً شديداً)
أجبته:

"لا حاجة للشدّة قبل أوان الأوان؛ لا حاجة للعجلة في ذلك، لا حاجة للعجلة! –أكدت- دعهم يستعجلون هم؛ أما نحن، فعلينا أن نحافظ على رباطة جأشنا وعلى خطانا، وهي خطىً ثابتة وأكيدة.

[...] أحد انطباعاتنا من هذه الزيارة، [...] هو حجم الحقد الذي تشعر به الإمبريالية على شعبنا الثوري؛ ودرجة الهستيريا التي وصلت إليها في عدائها للثورة الكوبية [...]، ودرجة الانحدار الأخلاقي بالنسبة للثورة [...] وقد شاهدتم ذلك: أمام اتهامات كوبا، ما زالوا يفكّرون بماذا يجيبون، لأنه في الواقع ليس لديهم شيئاً يردّون به.

[...] فلنعلم جميعنا تمام المعرفة بأنه صراع طويل، طويل وقاسي. [...] لقد واجهت ثورتنا الإمبريالية الأشد جبروتاً في العالم، [...] فالإمبريالية اليانكية هي الأشد جبروتاً من حيث الموارد الاقتصادية والنفوذ الدبلوماسي والموارد العسكرية؛ [...] وليست هي كالإمبراطورية الإنكليزية، إنها أشد وأوسع خبرة منها؛ إنها إمبريالية متغطرسة، يعميها ما تملك من جبروت. [...] إنها إمبريالية همجية، وكثيرون من قادتها هم همجيون، لا يختلفون بشيء على الإطلاق عن متوحّشي العصور الأولى من عمر البشرية أولئك. كثيرون من قادتها، كثيرون من زعمائها، هم أصحاب نابٍ طويل. [...] إنها الإمبريالية الأشد عدوانية، الأشد ميلاً للحرب، والأشد غباء.

[...] إننا هنا في الخط الأول: بلد صغير، ذو موارد اقتصادية شحيحة، يخوض هذا الصراع الطويل مرفوع الرأس وعازماً وثابت الخطى وبطولياً من أجل تحرره، من أجل سيادته، ومن أجل مصيره.

[...] يواجه وطننا الإمبراطورية الأكثر همجية في كل العصور الحديثة، [...] والتي لن تكلّ في جهودها لتدمير الثورة [...] وخلق العراقيل أمامنا [...] سعياً منها لمنع تقدّم وطننا وتطوره. [...] هذه الإمبريالية تحقد علينا حقد الأسياد للعبيد الذين يتمرّدون. [...] يضاف إلى ذلك الظروف التي يرون فيها مصالحهم في خطر؛ وليس مصالحهم هنا، وإنما مصالحهم في العالم بأسره.

[...] حالتنا نحن كانت حالة باقي البلدان النامية، وكانت حالة أمريكا اللاتينية كلها، وكانت حالة كل بلدان أفريقيا، وكانت حالة كل بلدان الشرق ألأوسط؛ وكانت حالة بلدان آسيا وأوقيانوسيا. [...] باقي العالم يخضع اليوم أيضاً لاستغلال الاحتكارات، وقد قلنا نحن في الأمم المتحدة لكل الشعوب النامية: ’لا بد من تأميم استثمارات الاحتكارات، بدون أي تعويض‘. قلنا لباقي الشعوب النامية: ’افعلوا ما فعلناه نحن، لا تظلّوا ضحية للاستغلال، افعلوا ما فعلناه نحن!‘ ومن المنطقي أن ترغب الإمبريالية بتدمير الثورة، لكي تتمكن من القول لباقي الشعوب: ’إذا فعلتم ما فعله الكوبيون، سنفعل بكم ما فعلنا بالكوبيين‘.

[...] لا بد لنا من معرفة ذلك؛ أن نعرف تماماً ما نحن فاعلون، أن نعرف تماماً المصالح التي نلحق بها الضرر، وأن هذه المصالح لن ترضى بهزيمتها بسهولة، لن ترفع هذه المصالح الراية البيضاء بسهولة.

[...] إنه كفاح طويل، طويل بحجم المصالح التي أضرت بها الثورة.

[...] أوضح فكرة أتينا بها هي أن من واجبنا مضاعفة الجهود.

[...] والأهم من الكلام [...] هو الفعل [...]، إن بلدنا هو موضع إعجاب، ليس لأقواله، وإنما لأفعاله، ليس لما يقوله كوبيّ هناك وإنما لما يفعله ويمكن أن يفعله كل الكوبيين.

[...] العام آخذ بتكوين فكرة عنّا، فكرة أفضل من التي كانت لديه، هذا إذا كان عند العالم فكرة يوماً بأننا موجودين. وما يكمن وراء هذا الرأي هو شعب؛ [...] هي أفعال هذا الشعب؛ [...] نحن ننتمي إلى لحظة عظيمة من تاريخ البشرية [...]، نحن ننتمي لساعة حاسمة بالنسبة للجنس البشري، [...] نحن أكثر من كوننا نحن؛ [...] نحن شعب، نحن أمّة!؛ نحن فكرة؛ نحن أمل، نحن قدوة. وعندما أطلّ رئيس وزراء الحكومة الثورية في منظمة الأمم المتحدة، لم يطلّ رجل، طل شعب!، كل واحد منكم كان هناك.

[...] تقع على كاهلنا نحن مسؤولية كبرى أمام الشعب! هذا ما يجب أن يشعر به كل واحد منكم!، وأن يحمل هذه الفكرة في عقله.

(يُسمع انفجار ثانٍ. أصوات مرتفعة من بين الجمهور: ’جدار كبير‘!، ’جدار كبير‘!، سننتصر!، سننتصر!) يغني الحضور جماعياً نشيد ’حركة السادس والعشرين من تموز/يوليو‘ ثم النشيد الوطني).

[...] دعوها تدوّي، إنهم بذلك يقومون بتدريب شعبنا على كل نوع من الضوضاء!
حسب ما أراه، هذه الليلة سوف تكون مكلفة بالنسبة لصاحب السيادة!

[...] تأتي هذه الأعمال لتؤكد ما ثابرنا على قوله، وهي أن أمام الثورة طريقاً طويلاً وشاقاً. [...] لقد أصرينا على أن يأخذ كل واحد دوره ومسؤوليته بعين الاعتبار.

الأمور السهلة ليست الأمور التي تعطي أفضل الثمار على المدى البعيد؛ وبالنسبة للشعوب، الأمور الصعبة هي التي يستحق الأمر القيام بها.

[...] لا يظنّنّ أحد بأن السنوات المقبلة ستكون سنوات هدوء وراحة. [...] هذا هو ما يخلّصنا من أحزان وعار الماضي؛ ما يجعل شعبنا سعيداً هو معرفته أن الأول من كانون الثاني/يناير لم يكن موعد انتهاء الثورة، وإنما هو موعد بدءها؛ المستقبل، انتصار الغد، سيكون ثمرة جهد كل أبناء الشعب! [...] يوجد في المستقبل موقع لكل واحد منّا.

[...] لم نفعل أكثر من أن نبدأ، [...] إننا في الصفحات الأولى من كتاب التاريخ العظيم الذي يكتبه الشعب الكوبي اليوم.

[...] هذا النصر سنحققه بواسطة أمرَين: الذكاء والشجاعة؛ بالعقل والقلب. ألا ندع الشجاعة أبداً تتفوق على الذكاء، ولا كذلك أن يتفوّق هذا على الشجاعة. على الشجاعة والذكاء أن يسيران على نسق واحد في الطريق المؤدي إلى النصر!

عدم الاستخفاف بالعدو. [...] العدو الإمبريالي ارتكب خطأ الاستخفاف بنا!

[...] طلبنا من رئيس الجمعية (في منظمة الأمم المتحدة) أن يأخذ بعين الاعتبار قلقنا من الحملات التي يقومون بها تحضيراً للميدان، عبر خلق حالة من الهستيريا وتهيئة الظروف العامة للخروج هناك بذريعة، فبركتها هناك، من خلال الاعتداء الذاتي. [...] من واجبنا أن نقوم بما يلائمنا، وليس بما يلائمهم هم".

[...] لقد أوضحنا تماماً بأننا سنطالب بسيادتنا على تلك القطعة من القاعدة، من خلال القانون الدولي، أي بواسطة السبل القانونية وليس بواسطة السلاح. لن نفعل بسلاحنا ما يريده العدو، وإنما ما لا يريده؛ يجب أن يكون سلاحنا جاهزاً على الدوام للدفاع عن أنفسنا، جاهزاً للمقاومة، جاهزاً لتدميره عندما يشن هجومه علينا.

العدو الإمبريالي غدّار، دنيء، قادر على فعل ما لا يتصوره العقل، يلجأ إلى أي سلاح، بدءاً من اغتيال القادة وحتى شن غزوات عسكرية، وعلينا نحن أن نكون ليس شجعان فقط، وإنما أذكياء كذلك. [...] العدو الإمبريالي يجب فضحه أمام الرأي العام العالمي. [...] لقد اجتزنا الأساسيات في الشؤون الثورية والسياسية، [...] لقد اجتزنا الصف الأول، الصف الثاني، الصف الثالث، وأصبحنا في الثانوية في هذه المسائل.

لم تكن كوبا تبدي رأياً البتة. كنا نفعل ما يأمرون به [...] الآن كوبا تبدي رأيها. [...] إننا نتعلّم الجغرافية السياسية الدولية.

[...] من واجب كل واحد منكم أن يكتسب المعارف وأن يتعلّم [...]؛ أن يعرف المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، المتعلّقة بكوبا وخارجها: وإلا فلن ننهي الثانوية، وعلينا الآن أن نصل يوماً أن نصبح حمَلَة دكتوراه بالثورة وبالسياسة.

إنه لرائع الذهاب إلى هناك والتمكن من القول لباقي الشعوب بأننا فتحنا عشرة آلاف غرفة صف جديدة...! أننا نبني الكثير من الجامعات، الكثير من المدن المدرسيّة، أن فنيين كثيرين ينشأون، [...] أننا رفعنا مستوى الإنتاج بالنسبة للفرد، ورفعنا عدد المصانع، ورفعنا مستوى إنتاجنا الزراعي، وارتقينا بمردودية العمل...

[...] أولئك الذين يأتون إلى هنا ويشاهدون الجهد الذي يقوم شعبنا ببذله في خضم مضايقة الإمبريالية له، يعجبون ويندهشون لما يقدر على فعله شعب صغير في وجه كم هائل من الصعوبات.

هذا هو الفخر الذي يستند إليه مندوبونا في أي مكان من العالم، وهذه هذه الفكرة الأساسية التي أردنا أن نعرضها هنا هذه الليلة. وشكراً على العبّوات، لأن نفعها بالغ جداً في ما يتعلق بما نقوم بشرحه! وشكراً لأنها نفعت لإثبات ما عند شعبنا من جرأة، لإثبات ما عند شعبنا من شجاعة؛ لأنه لم تتحرك من مكانها ولو امرأة واحدة! لم يتحرك من مكانه ولو رجل واحد، ولن يتحرك من مكانه أمام أي خطر كان، أمام أي اعتداء كان! كل واحد منّا هو جنديّ للوطن، لا ننتمي لأنفسنا، إنما ننتمي للوطن! لا يهمّ إن سقط أي أحد منا، ما يهمّ هو أن تبقى هذه الراية مرفوعة عالياً وأن تسير الفكرة قدماً! أن يعيش الوطن!".

إلى هنا كان ذلك الخطاب، ما ورد فيه من أفكار أساسية بذات الكلمات المستخدَمة، كما وعدت.
يا أبناء وطننا:

بينما أتذكر كل الذين سقطوا دفاعاً عن ثورتنا وأفكارها العادلة، والصورة الخالدة للشعب البطل الذي تمكّن قبل خمسين سنة من اليوم من معانقة المبدأ المارتيئي "الوطن هو البشرية"، لا أتردد بالإعلان: لقد نفذنا وستواصلون أنتم تنفيذ عهد تلك الليلة الخالدة!
شكراً جزيلاً.

استغرق الاحتفال ساعة و12 دقيقة، حرارة الشمس ليست شديدة. إذا أردتم، نستطيع أن نواصل الحديث بعض الوقت (هتافات: "نعم"). إنني أراكم بين الأوّلين (يقصد مجموعة من أعضاء "لجان الدفاع عن الثورة" ممن حضروا احتفال عام 1960. يقولون له أن فيدل سيبقى موجوداً لزمن طويل). حسناً، هذا لا يهم، أنتم موجودون وهو الأهم (تصفيق).

الحقيقة أن هناك أمور كثيرة، وعدت بأن أكتب حالما توفّر لدي لوقت عن خطاب منظمة الأمم المتحدة، وكان ذلك على أثر وضع هو اليوم أشد خطورة من أي وقت مضى، كما قلت لرابيليرو. أثناء استماعنا للأغنية الرائعة التي قدّمتها هايلا، أضفت للمنسِّق الوطني: "الحال أسوأ اليوم، العالم هو موضع تهديد أكبر". مضت خمسون سنة من الكفاح، كنا شهوداً على تطور طويل الأمد، ولهذا تكلّمت عن أهميّة إعادة ذلك الخطاب إلى الأذهان، ولو اضطرني الأمر لتقسيم التحليل إلى ثلاثة أو أربعة أجزاء. يبغ عدد صفحاته 128، وهو كالخطاب الذي ألقيته يوم تأسيس منظمة "لجان الدفاع عن الثورة"، وليس أمراً معداً بشكل مسبق، كنت قد فكّرت كثيراً ولاحظت سير الأحداث. لقد مارسوا فظائع بحقنا: أخرجونا من الفندق القريب من منظمة الأمم المتحدة، حاولوا مصادرة طائرتنا، اخترعوا خططاً من كل نوع؛ لم يشأ أحد آخر استضافتنا، فتوجهت إلى هارلم، حيث استقبلوني هناك بحرارة؛ تعرفت هناك وتحدثت إلى مالكوم إكس وغيره من قادة المجتمع. نزلنا في فندق "ثيريسا"، الذي كان مبنياً من الخشب.

توجّه لزيارتي هناك كثيرون من الزعماء، فذهب خروتشوف، وذهب عبد الناصر، وذهب أرفع قادة المعسكر الاشتراكي والعالم الثالث في تعبير عن التضامن. من فندق "ثيريسا" كنّا نذهب إلى اجتماع الأمم المتحدة. احسبوا الأمور التي كان للمرء أن راكمها.

يوم 26، الذي كان فيه دوري في الخطاب، بدأت حديثي بنفس هادئة، وبنفس هادئة مكثت على المنبر ست ساعات (ضحك وتصفيق)، هكذا. ولكنني أخذت بتناول المسائل واحدة بعد الأخرى (تصفيق)، وإذا كان بوسعنا الحديث اليوم عن فكر، لا بد من العودة إلى "سينصفني التاريخ"، على أثر الهجوم على ثُكنة "مونكادا"، ثم إلى الاجتماع المذكور لمنظمة الأمم المتحدة، وفي الختام إلى اللقاء الذي جمعني هنا مع الشعب في ذلك اليوم الذي تأسست فيه "لجان الدفاع عن الثورة"؛ احسبوا خمسين سنة من النضال. المسألة ليست أن يكون لدى المرء مشروعاً لتكوين عقيدة. فكيف كان للمرء أن يتصوّر الأعمال الوحشية التي يمكن للإمبراطورية ارتكابها، ومخططات الاغتيال التي أعدّوها، ولكنهم بلغوا من الغرور ومن الغباء درجة أنهم لم ينجحوا (ضحك وتصفيق).

حصل أننا كنّا نتحدث مرةً من على هذا المنبر (يشير إلى شرفة القصر الرئاسي قديماً)، أعتقد أن ذلك كان في مناسبة لاحقة؛ في إحدى هذه الشقق الواقعة على الجهة اليمنى، لاحِظوا المسافة، أقل من مائة متر، كانت مجموعة من الرجال المسلّحين ببنادق ذات منظار تلسكوبي، من عيار 30.06، رشاشات وبازوكا، لا أدري كم من الأسلحة، كنّا نحن على تلك الشرفة ولم يجرأوا على إطلاق النار، لاحِظوا!، هكذا هو الأمر؛ كانوا هم قد عكفوا على إعداد المخططات منذ ما قبل ذلك الاحتفال (تصفيق).

بعد ذلك... لمَ الحديث عن كل مخططاتهم تلك (أحد ما يقول له شيئاً) ولكن، سحرهم ارتدّ على الساحر (ضحك وتصفيق). كل واحد من كل تلك الأمور تحوّل إلى أداة، إلى سلاح، إلى حجة، ولهذا هو أمر هامّ في معركة الأفكار أن يتواصل تطوّر الفكر، إنه أمر جوهريّ.

قلت لكم أنني في هذه الأيام كتبتُ شيئاً يمكنه أن يساعدنا على فهم صنف الإمبراطورية، وكان ذلك بمناسبة زيارة اليابانيين، مجموعة تسمّى "Peace Boat"، وهي منظمة معروفة مناضلة من أجل السلام، وتقوم بإجراء زيارات لبلدنا منذ زمن طويل. السيدة التي تحدثت باسم الناجين كان عمرها سنتين فقط حين تعرضت هيروشيما للاعتداء النووي؛ أجرت عرضاً ما فوق العادي حرك مشاعر الجميع في الواقع. بقي تفكيري معلّقاً بذلك، لأنه عندما نُشر اللقاء في قصر المؤتمرات عبر التلفزيون، لم تكن هناك ترجمة فوريّة؛ أي أنه عندما تكون هناك ترجمة فورية، فإن هذا العمل يتم من قمرة، ولكننا هناك كنّا على طاولة، وأصوات المترجمين الذين كانوا قريبين جداً من الميكروفونات، كانت تغطي على ما أقول، فلم يكن مسموعاً جيداً. وددت أن يكون الحوار معروفاً، فماذا فعلت: نشرت ثلاثة تأملات بمحتوى ذلك الحوار، ولم تكن طويلة جداً. أدهشني ما رووه هم، فالحال ليس سواء بين قراءته وبين سماعه من شخص يروي قصة ما عاناه الناجون.

عندما قرأت مقالة عن ترومان نشره موقع "Global Research"، شدهت. ماذا فعل ترومان؟ هو الذي حل محل روزفلت. كان روزفلت رجلاً صاحب خلقية أخرى، مع أنه كان يمثل نظاماً اقتصادياً رأسمالياً قد تحوّل إلى إمبراطورية، كانت موضع التطور، لم تكن قد بلغت كمالها بعد، مع أنها كانت تسير نحوه بوتيرة جيدة. توفي روزفلت وتقلّد نائبه رئاسة البلاد.

في كثير من الأحيان يختار المرشحون لرئاسة الولايات المتحدة نائباً ذا أفكار مختلفة، وذلك سعياً لشيء من الوحدة؛ فيأتي واحد، إذا كان من اتجاه معين يسمى يساراً، وينتقي مرشحاً آخر مما يسمى التيار اليميني، وعلى نحو أخص في حالة الحرب. هكذا كان لترومان أن تولّى الرئاسة، وهو الذي أوعز باستخدام القنبلتين النوويتين عندما كانت هذه الحرب بحكم المنتهية. كان السوفييت قد أنهوا معركتهم في برلين، قلب الرايخ الثالث، وتمكنوا بعد جهود هائلة من إرسال قواتهم إلى منشوريا. كانوا قد قاتلوا هناك من قبل. فقد كان اليابانيون قد غزوا تلك المنطقة من الصين عشية الحرب العالمية الثانية. وفي تلك المنطقة اصطدموا بالقوات السوفييتية، تحت أمرة جوكوف بالذات، ومنوا بهزيمة. وبعد الغزو النازي للاتحاد السوفييتي، عندما دخلت اليابان الحرب في وقت لاحق للهجوم على "بيرل هاربر"، احتلت أراضي منشوريا من جديد، وفي نهاية الحرب كانت قد حشدت معظم قواتها في تلك المنطقة. عندما شنّت القوات السوفييتية الباسلة هجومها في زحف عازم، بدأت الإمبراطورية اليابانية تنهار كلياً، ولم يكن لديها أي إمكانية للمقاومة بمفردها وبدون حلفاء. لم يكن هناك أي حاجة لاستخدام السلاح النووي، فقد كانت نهاية الحرب مسألة أيام؛ لكن حكومة الولايات المتحدة أرادت استخدامه. كان لديها قنبلتان في تلك اللحظة: واحدة من اليورانيوم وأخرى من البلوتونيوم. اثنتان فقط، ولكنها لم تلقِهما على منشأة نووية، وإنما على منطقة مدنية عزلاء. قتلتا أكثر من مائة ألف شخص على الفور، بينما أصيب آخرون بأضرار جسيمة. وتعذّب ومات على مدار خمس وستين سنة أولئك الذين لم يموتوا منذ اللحظة الأولى.

ماذا فعل ترومان؟ كتب هو مذكرات ذكر فيها نشاطه اليومي. ألقى خطاباً عاماً عبر الإذاعة للإبلاغ عن إلقاء القنبلة، وأكد فيه حرفياً: "سيعرف العالم أنه تم إلقاء أول قنبلة ذريّة على قاعدة عسكرية في هيروشيما. وكان هذا لأننا أردنا من هذا الهجوم الأول أن نتفادى قدر الإمكان قتل المدنيين...". عندما يقرأ المرء هذه الأوراق، يُبغت لتفكيره بأن ذلك الرجل بلغ من الوقاحة والدناءة وانعدام الوجل أن أعلن بأنه قد استخدم تلك القنبلة ضد قاعدة عسكرية في هيروشيما؛ لكن هذا ليس كل شيء، فهذا ما قاله بعدما ألقى قنبلة اليورانيوم؛ وبعد ذلك بثلاثة أيام أوعز بإلقاء قنبلة البلوتونيوم على ناغازاكي.

في كل واحدة من هذه المواد –ولا أطمح لأن يستوعب ذلك على الفور- يُحكى عن الكُتلة الحرجة. سوف أصف الكتلة الحرجة بكونها كمية المواد الإشعاعية التي يتعيّن جمعها لكي يحدث الانفجار؛ واحدة لديها هذه الكمية، 52 كيلوغرام من اليورانيوم المخصَّب. لا يوجد في الطبيعة أبداً كمية تصل إلى 50 كيلوغرام، إنها مادة نادرة جداً ومتناثرة في المناجم. يتم وضع كميتين من اليورانيوم المخصَّب في القنبلة، مفصولة واحدتها عن الأخرى، وتربط بينهما آليات تفجير تقليدية من أجل تكوين الكتلة الحرجة التي يستلزمها الانفجار الذري. إذا تم استخدام بلوتونيوم بدلاً من اليورانيوم، فإن عشرة كيلوغرامات مكررة أيضاً تكفي لتكوين الكتلة الحرجة اللازمة لإحداث الانفجار. هكذا هو الأمر، وهو يعبّر عن التقدم المذهل للعلوم في معارف الطبيعة والفضاء والمادة.

مما صرّح به بعدما ألقى القنبلة، كان ما يزال بالإمكان القول: "حسناً، هذا الهمجي لم يكن يدري ما هو عليه هذا السلاح"؛ ولكنه كان يعرف أفضل من أي أحد آخر ما كان عليه هذا السلاح، لأن ذلك ما ظهر في مذكراته المكتوبة بخط يده، هو ما نُشر في صحيفة اليوم –اليوم نُشر الجزء الثالث-، ما شرحه هو: "تم تطوير السلاح الأكثر رعباً أبداً". ويتحدث عن الحقبة التي لم يكن فيها ذلك أمراً يتصوره العقل، في ذلك الزمن البعيد الذي كان يجري فيه الحديث عن أمور مرعبة.

هل يحمل أحدكم بالصدفة نسخة من صحيفة "غرانما"؟ فبما أننا نتحدث عن هذا الموضوع، لا بد أن أحداً يحمل نسخة منها. لدي هنا نظارتي، وما زال بإمكاني بعد قراءة الحروف الصغيرة من الجريدة.

سوف ترون ما كتبه ترومان عن القنبلة في الخامس والعشرين من تموز/يوليو، قبل 12 يوماً من إلقائها.
ألم تظهر الجريدة؟ لكن، هل يبلغ عدد قراء "غرانما" هذه القلة؟

(يتسلّم الجريدة) لقد أحضرتم لي عدداً قديماً (ضحك). (يشرحون له أن بين يديه عددي يوم أمس واليوم). آه، إنه عدد يوم أمس. الخطأ خطأي أنا (ضحك).

اسمعوا ما قاله السيد ترومان، الذي لا بد وأنه ويتواجد في مكان ما من جهنّم، حسبما أتصوّر (ضحك).

"اكتشفنا القنبلة الأكثر ترويعاً في تاريخ العالم. ربما تكون الدمار الناري الذي تم التكهن به في عهد وادي الفرات، بعد سفينة نوح... هذا السلاح سوف يتم استخدامه ضد اليابان... [نحن] سنقوم باستخدامها لكي تكون الأهداف العسكرية والجنود والبحارة هم المستهدَفون وليس النساء والأطفال. بل وأنه حتى إذا كان اليابانيون متوحّشون ولا رحمة في قلوبهم ومتعصبون، فإننا كقادة للعالم في الرعاية الاجتماعية المشتركة لا يمكننا أن ندع هذه القنبلة المريعة تسقط على العاصمة القديمة أو الجديدة... سيكون الهدف عسكرياً محضاً... ربما تكون الشيء الأكثر ترويعاً تم اكتشافه يوماً، ولكن ربما تكون عملياً الأكثر نفعاً".

تشاهدون هنا هيكل روح شخص إمبريالي. يجب أن يعرف العالم ذلك، لا بد من أن يعرفه؛ لأنه إذا رأيتم ما لديهم من نظريات -ولهذا كنت أتحدث مع رابيليرو-، وإذا رأيتم ما لديهم من خطط، وإذا رأيتم العقائد العسكرية التي يطبّقونها، الحقيقة أنكم ستبغتون. ولهذا فإنني، وليس هذا مبالغة مني، وليس تكبيراً مني لحجم الأمور، ولكن الإمكانية الوحيدة المتاحة هي الكشف والكشف. إنما فقط من خلال التمكن من جعل الرأي العام في العالم على نحوٍ كافٍ من القوة، يمكن في الواقع منع إنهاء الجنس البشري، إنه أمر دقيق من الناحية الرياضية.

يبدو لي أنه ربما يكون مفيداً معرفة بعض من هذه الأفكار حول ماهيّة السلاح النووي. لقد رأيتُ بعض المشاهد عن ماهيّة الكتلة الحرجة، وما يعنيه استخدامها كسلاح: إنه أخذ الطاقة التي تحرك العالم من أجل استخدامها في الحرب. يقول المرء أنه ببلوغ الحرارة درجة 100 تغلي الماء، فلا يمكن إدخال اليد إليها؛ وببلوغها درجة 660 ينصهر الألمنيوم؛ وإلى ما يزيد عن ذلك، 1500 درجة، ينصهر الحديد؛ وعلى درجة 3000، تنصهر عملياً كل المعادن والمواد. فكيف سيكون الحال على درجة عشرة آلاف؟ وماذا سيكون عليه على درجة مائة ألف؟ وماذا سيكون على درجة مليون؟ حسناً، من خلال الانفجار الذري نتيجة الكتلة الحرجة، يمكن الوصول إلى حرارة تبلغ ملايين الدرجات، -أرى أن بعضاً منكم يستخدم نظارات سوداء، وأظن أن هذه التي استخدمها أنا يمكنها أن تصبح سوداء؛ وبهذه النظارة أراكم، وحتى يمكنني أن أقرأ-، لا شك بأنها أكبر عملية قتل في التاريخ وأكثرها دناءة (تصفيق).

أقلعها (يقصد النظارة). إنها المرة الأولى التي أستخدمها بها. هل اقتلعتموها أنتم؟ كنت أتذكر أولئك، نفس الذين أجروا التجارب الأولى في الأراضي الصحراوية من الولايات المتحدة، ومن على مسافة بعيدة جداً، كانوا يستخدمون النظارات السوداء لمنع شعاع الشمس من إنزال الضرر ببصرهم، لأنها ظواهر لا يتصورها العقل بالنسبة لما لدينا من مفاهيم عمّا تعنيه الحرارة، عمّا يعنيه النور. إذن، أظن أن ذلك لا ينزل الأذى ببلدنا، بل على العكس، يمنحه المزيد من الثقافة؛ يمنح ثقافة غير متوفرة، لسوء الحظ، عند الشعوب. من واجبنا أن نجعل الشعوب تعرف، لأن ذلك يعطيها دافعاً للنضال، ما هي الكتلة الحرجة، ممَّ تتكوّن، ما حجم الطاقة التي بإمكانها تكوينه، وماذا تفعل الإمبراطورية بهذه الكتلة، وما هي العقيدة العسكرية لهذه الإمبراطورية.

لا أريد أن أطيل وأتناول مزيداً من المواضيع، فهي عديدة، انطلاقاً من الأمور التي يشاهدها المرء.

ما الذي قاله قبل أيام قليلة ذاك السيد الذي يشغل رئاسة الولايات المتحدة؟ المرء يشعر بالدهشة فجأة، لأنه يظن بأنه سيكون هناك قليل من التهذيب، لكنك تكتشف، ولسوء الحظ، أن لا وجود لهذه الكلمة، فهي مفزعة. حسناً، ليس هناك من مفرّ إلا الأمل بأن يكون ذكياً على الأقل.
يفترض أنهم لا يريدون التضحية بشعب الولايات المتحدة، لأنهم هم الوحيدين الذي يهددونه، الوحيدون الذين يمكنهم شن حرب، وكل ما يفعلونه هم يؤدي إلى الحرب. ليست روسيا، لأن الأمر يتعلق اليوم ببلد رأسمالي؛ وليست الصين، فكلاهما طورتا تلك الأسلحة بغريزة دفاعية، ولكن ليس من أجل غزو بلدان أخرى. يقوم اليانكيون بتطويرها من أجل المحافظة على هيمنتهم على العالم. من المستحيل أن يتمكن النظام الرأسمالي من البقاء، فقد مضى عصره، ولم يعد منسجماً مع وجود آلاف الملايين من أبناء البشر واحتياجاتهم الأساسية وتلوّث البيئة ونفاذ الموارد المادية والقفزات العلمية من ناحية والإنتاجية المدهشة للعمل من جهة أخرى، فيمكن لهذا الإنتاج أن يصل إلى نحو مائة أو مائتي ضعف ما كان عليه قبل مائتا سنة من اليوم.

أستطيع أن أذكر لكم مثالاً: أثناء قيام الرفيقة هايلا بالغناء، كنا نسمعها جميعاً. لو لم يكن هناك مكبّرات للصوت، لما كان بإمكان المتواجدين هناك سماعها. ولكن، قبل وجود الإذاعة، كان يتعيّن الذهاب إلى المسرح من أجل سماع صوت جميل وتعبيرات شخص يرافق غنائه، أو الاستعراض الرائع لفرقة باليه ما فوق العادية كالفرقة التي عندنا، التي ستحتفل قريباً بحلول ذكرى جديدة هامة لتأسيسها (تصفيق). عندما نشأت الإذاعة قبل عدة عقود من اليوم، كان بوسع مئات الآلاف من الأشخاص، بل ملايين منهم، أن يسمعوا خبراً مئات الآلاف من المرات. في إحدى المرّات، كان برنامج إذاعي يبث سرداً روائياً لمؤلف شهير، وأوشك ذلك أن يُحدث كارثة بين أشخاص ظنّوا بأن ما يجري روايته إنما كان يحدث حقيقة.

اليوم، مع وجود التلفزيون، إذا ما غنّت هي، يستطيع أن يراها ويسمعها بعد ساعة واحدة ثلاثة ملايين كوبي؛ أو يستطيع مائة مليون أن يشاهدوا مباراة بكرة القدم. كان قليلون في السابق يدرون بمباراة في كرة القدم، أحياناً بعد وصول برقية صحفية، وفي أحيان أخرى يأتي خبرها في صحيفة، وكانت الصحيفة تصل إلى القارئ إذا كان يجيد القراءة. إذا كان لديك اليوم جهاز استقبال تلفزيوني، تجد أن الجهد الذي يبذله فنّان يستمتع به ملايين الأشخاص. ليس الحال سواء في جميع النشاطات، ولكن تضاعف الإنتاجية يحدث بالنسبة للكثير منها.

في السابق كان الإنسان ينقل بواسطة حمار صغير مائة أو مائة وخمسين كيلوغراماً بضعة كيلومترات؛ واليوم في شاحنة تحمل ما بين عشرين وخمسين طناً، تسير في بعض الأحيان آلاف الكيلومترات، أو بواسطة قطار. ومع الإلكترونيات تضاعفت الإمكانيات أيضاً.
التقنية تُبعد الإنسان عن فرصة العمل، والرأسمالية لا تساهم بأي تهذيب أخلاقي، ليس فيها أي شيء خلقي، إنما كل شيء فيها تجاري. لا يمكن بهذه الطريقة تعليم شعب، وإنما تحوّل الأشخاص في كثير من الأحيان إلى أنانيين، طمّاعين، وحتى إلى قطّاع طرق.

لقد شاهدنا ما حدث للتو في فنزويلا، إنه أمر مريع. يوم أمس شرح الرئيس الفنزويلي بحر أكاذيب الآلة الإعلامية، وقد أخذ بكشف القناع عنها أجهزتها واحدة واحدة. ولكن الإمبراطورية حريصة على خلق مشكلة في فنزويلا، حيث أخذت الثورة بخلق الوعي، انطلاقاً مما فعلته الثورة من أجل الشعب –على غرار ما حدث هنا-، عبر توفيرها حقوقاً لم يتمتع الشعب بها أبداً من قبل، وبشكل خاص في ميدان التعليم.
لاحظوا أن الثورة بدأت بالتعليم أولاً، ثم تابعت لاحقاً بالصحة، وهكذا أصبح الشعب شعباً آخر، أصبح الإنسان أنساناً آخر، وأصبحت الحياة حياة أخرى تستحق عيشها.

كم من مليون شخص يحتاجون إلى كرسيّ متحرك أو يحتاجون إلى جهاز صغير يمكنّهم من السمع، أو لعملية في العينين لكي لا يفقدوا بصرهم. في بوليفيا وحدها أجرى أطباؤنا عمليات لمرض إظلام عدسة العين عند أكثر من نصف مليون شخص (تصفيق). أي أن إمكانيات فعل الخير هي إمكانيات ما فوق العادية إذا ما تم تحضير الشعب لها، هذه هي الأفكار، هذا هو ما ندافع عنه. ولكننا لا نفعل شيئاً اليوم بطرح الأفكار والدفاع عنها والكفاح من أجلها بدون وجود البشرية، التي كان لكل من تولّد فيها امتياز التمكن من التفكير والتمتع بالذكاء ومعرفة الحياة.

لا يعرف أي من الكائنات الحية الأخرى أموراً كهذه الأمور التي نحن بصدد الحديث عنها. وبما أنه كان للإنسان هذا الامتياز، فإن أقل ما يتوجب عليه فعله هو محاولة إنقاذ هذا الجنس. لماذا عليهم أن يضحّوا بكل الأطفال ويتعيّن أن يحدث ما حدث لهذه السيدة الناجية من هيروشيما عندما كانت في السنتين من العمر؟ ولم تعرف بالأمر حتى بلغت الثامنة وثلاثين تقريباً من عمرها، عندما روى لها والدها، لأنهم تعرضوا فيما بعد للتمييز، فلم يكن يعرف أحد آثار الإشعاعات، وكانوا يظنّون أن عدوى هذه الآثار تنتقل إلى آخرين.

تصوروا الآن، مع النظرية التي شرحها هنا واحد من ألمع العلماء عن الشتاء النووي. مائة قنبلة من بين الخمس وعشرين ألفاً الموجودة اليوم، وهي أكثر قوة بكثير، من شأنها أن تتسبب بشتاء نووي: إنتاج المواد الغذائية سيندثر خلال أسابيع، إضافة لما هو فيه من أزمة بسبب التدهور البيئي؛ في مجال صيد السماك، الاستغلال الهمجي المتمادي؛ المياه، الملوثة جداً، فقد ألقت الصناعة في البحر وفي البحيرات كميات هائلة من الزئبق وغيره من المنتجات الكيماوية. آه...! بينما كان عدد سكان المعمورة قليلاً، كانت الطبيعة تسمح لها بالمقاومة. أصبح عدد السكان اليوم يتجاوز الستة آلاف مليون. يقدَّر أنه سيبلغ في عام 2050 نحو تسعة آلاف مليون. يجب أن يتغذوا، فهذه هي حاجتهم الأولى. هل تتصورون بقاء آلاف الملايين من الأشخاص، وإن لم تقتلهم بشكل مباشر إحدى القنابل المائة، محرومين من الغذاء وفي ظل درجات حرارة هي دون درجة التجمّد؟ لا شيء سيعمل. إنما ستكون حالة احتضار دائمة.

إنها أمور قاسية، لكن لا بد من التفكر بها، لا بد من قولها؛ ألا يكون بالإمكان التفكير بأن البشرية سارت نحو الكارثة من دون يتنبه أحد من ذلك ويحذر منه. لا يتعلق الأمر باستحقاقات أو فضائل لأحد، ولا شيء من هذا القبيل، إنها العقلانية الأساسية ما تجبر كل واحد منّا على التفكير في ذلك والتحذير منه. إن بذل الجهد هو واجب عليه، لأن للجميع أب، أم، أبناء، وللجميع أشخاصاً أعزاء عليهم. ولكن بالإضافة لذلك، أنزه الأشخاص وأكرمهم يحبّون الناس، يحبّون الغير، يحبّون جيرانهم، ويهمّهم أمرهم. الأممية هي الكفاح من أجل أولئك الخاضعين للأبارثيد، للعبودية أو للجوع.

لقد عاش أي منّا مختلف المراحل، منذ أن كان يجهل القراءة والكتابة حتى يومنا هذا، ويعرف كيف يمكن للوعي أن يأخذ بالتطور. إذن، جميعنا نحن اكتسبنا مستوىً معيناً من المعرفة. لا بد من الكفاح في سبيل ذلك، وهو ما أؤكده عليه هنا. لا بد من الكفاح من دون السعي لشيء! ويبدو لي أنه حين يبذل الناس جهداً من أجل أشياء لا أهمية لها، فإن هذه المسألة هي قضية يستحق الأمر بذل الجهد من أجلها (تصفيق).
أعذروني على أخذ بضع دقائق إضافية من وقتكم، ولكن يسعدني جداً أن تمكنتُ من إضافة هذه الأمور (يقول له أحد من الجمهور: "حضرتك حامل جائزة نوبل بالنسبة لنا، لأنك تحملها في القلب وقد أثبت ذلك في هذه السنوات الخمسين!") (تصفيق).

في أي ساعة بدأنا؟ أحد ما يقول له في الساعة 9:07؛ منذ نصف ساعة).

إذن، لم نتكلّم ولا حتى ساعتين (ضحك)؛ ولكنني سأنصرف، فقد بدأت درجة الحرارة ترتفع.

(هتافات: "عاش!" و"فيدل، فيدل، فيدل!")

(تصفيق حاد)
Versiones Taquigráficas - Consejo de Estado