خطابات و تداخلات

نص الخطاب الذي ألقاه القائد العام فيدل كاسترو روز في مقرّ منظمة الأمم المتحدة، الولايات المتحدة، في 26 أيلول/سبتمبر 1960.

التاريخ: 

26/09/1960

سيّدي الرئيس؛

السادة المندوبين؛

مع أنه يشاع عنّا أننا نطيل في كلامنا، لا تقلقوا. سوف نبذل ما بوسعنا لكي نكون وجيزين وعرض ما نرى بأن من واجبنا عرضه هنا. كما أننا سنتكلّم بتمهل، لكي نساعد المترجمين في عملهم.

ربما يظن البعض بأننا مستاؤون جداً من المعاملَة التي لقيها الوفد الكوبي. ليس الحال كذلك. نحن ندرك تماماً ونتفهم دوافع الأمور. ولهذا فإننا لسنا غاضبين، ولا ينبغي لأحد أن يشعر بالقلق من تمكّن كوبا من الإسهام أيضاً بحبة خردل في الجهد الذي يُبذَل من أجل تفاهم العالم.

ولكن الصحيح أيضاً، هو أننا سوف نتكلّم بصراحة ووضوح.

إن إرسال وفد إلى الأمم المتحدة يكلّف موارد. ونحن، البلدان النامية، لا يتوفر لدينا الكثير من الموارد لكي ننفقها، ما لم يكن ذلك من أجل التكلّم بصراحة ووضوح في هذا الاجتماع الذي تتمثل فيه كل بلدان العالم تقريباً.

الخطباء الذين سبقونا في إلقاء كلماتهم عبّروا هنا عن قلقهم إزاء المشكلات التي تهمّ العالم بأسره. نحن تهمّنا هذه المشكلات، ولكن، بالإضافة إليها، يوجد في حال كوبا ظرف خاص، وهو أن كوبا يجب أن تشكّل في هذه اللحظة دافعاً للقلق بالنسبة للعالم، لأنه -وكما أعرب عدد من المندوبين محقّين-، من بين مختلف المشكلات التي نجدها اليوم في العالم، تأتي مشكلة كوبا. وبالإضافة للمشكلات التي تبعث القلق اليوم عند العالم كلّه، يوجد عند كوبا مشكلات تبعث القلق عندها، تبعثه عند شعبها.

يجري الحديث عن رغبة عالميّة بالسلام، وهي رغبة كل الشعوب، وبالتالي فإنها رغبّة شعبنا أيضاً، لكن هذا السلام الذي يريد العالم صونه، هو السلام الذي لا ننعم به نحن الكوبيون منذ زمن طويل. فالمخاطر التي يمكن لشعوب أخرى أن تراها بعيدة نسبياً هي مشكلات ومباعث قلق نراها نحن قريبّة جداً منّا. ولم يكن من السّهل المجيء إلى هناك إلى هذه الجمعية لعرض مشكلات كوبا. لم يكن سهلاً علينا الوصول إلى هنا.

لا أدرى إن كنّا متميّزين. هل ترانا نحن، اعضاء الوفد الكوبي، نمثّل نوع الحكم الأسوأ في العالم؟ هل ترانا نحن، أعضاء الوفد الكوبي، نستحقّ سوء المعاملّة الذي تلقّيناه؟ ولماذا وفدنا تحديداً؟ لقد أرسلت كوبا وفوداً كثيرة إلى الأمم المتحدة، وقد مثّل كوبا العديد من الأشخاص، ومع ذلك فإن الإجراءات الاستثنائية كانت من نصيبنا نحن: إقصاء إلى جزيرة مانهاتن، تعليمات لجميع الفنادق بعدم تأجيرنا غرف، عداء، وعَزل، بحجة الأمن.

لعلّ أيّاً منكم، يا حضرات المندوبين، الذين لا تمثّلون أحداً بصورة فردية، وإنما يمثّل كل منكم بلده، وبالتالي فإن القضايا التي تتعلق بكل واحد منكم لا بدّ وأن تثير القلق عندكم بالنظر إلى ما يمثّله بالنسبة لكل منكم ما عاناه أي واحد لدى وصوله إلى مدينة نيويورك من معاملة منغّصة، منغِّصة جسدياً، كما عاناه رئيس الوفد الكوبي.

أنا لا أقوم هنا في هذه الجمعية بالتحريض. أكتفي بقول الحقيقة. فقد حان الوقت أيضاً لكي تتاح لنا فرصة الكلام. فهم منذ أيام عديدة وهم يتحدثون عنا، تحدثت عنا الصحف، ونحن صامتون. نحن لا نستطيع أن ندافع عن أنفسنا في وجه الهجمات هنا، في هذا البلد. فرصتنا لقول الحقيقة هي هنا، ولن نتردد في قولها.

تعاملٌ شخصي مُسيء، محاولاتٌ لتشويه الحقائق، طَرْدٌ من الفندق الذي كنّا نقيم فيه، وعندما توجّهنا إلى فندق آخر تحمّلنا قدر المستطاع في سبيل تفادي العراقيل، فامتنعنا كلياً عن مغادرة النزل، وعن التوجّه إلى أي مكان آخر غير قاعة الأمم المتحدة هذه، المرات المعدودة التي حضرنا فيها، وقبول دعوة إلى حفل استقبال في سفارة الحكومة السوفييتية. لكن ذلك لم يكفِ لكي يتركونا بسلام.

كان يوجد في هذا البلد عدد كبير من المهاجرين الكوبيين. يتجاوز المائة ألف عدد الكوبيين الذين انتقلوا للعيش في هذا البلد قادمين من بلدهم نفسه، حيث كان بودّهم أن يعيشوا دائماً، وإلى حيث يتمنّون العودة، كما يرغب بالعودة دائماً الذين يضطرون لمغادرة وطنهم لأسباب اجتماعية أو اقتصادية. كان هؤلاء الكوبيون يعملون، ويحترمون القانون كما يحترمونه الآن، وبالطبع يكنّون مشاعر تجاه وطنهم، وتجاه الثورة. ولم يواجهوا مشكلّة أبداً، ولكن، ذات يوم، بدأ بالوصول أشخاص سبق لبعضهم أن قتلوا المئات من أبناء وطننا. لم يتأخر الإعلام هنا في تشجيعهم، ولم تتأخر السلطات في تشجيعهم، وبطبيعة الحال، هذا التشجيع يعكس سلوكها، وهو دافع لحوادث متكررة مع المواطنين الكوبيين الذين يمارسون عملهم بكرامة في هذا البلد.

أحد هذه الحوادث، والذي تسبب به أولئك الذين يشعرون هنا بأنهم مدعومين من الحملات المنهجية ضد كوبا وبتواطؤ السلطات معهم، أدى إلى مقتل طفلة. كانت هذه الواقعة مؤسفة، وهي حادثة كانت تستدعي ألمنا جميعاً. ليس الكوبيون المقيمون هنا المسؤولين عن ارتكابها. كما أنه لسنا نحن، أعضاء الوفد الكوبي المسؤولون عن ارتكابها؛ غير أنه من المؤكد أنكم شاهدتم جميعكم تلك العناوين في الصحف، التي تقول بأن "مجموعات موالية لكاسترو" قد قتلت طفلة في العاشرة من عمرها. وبهذا النفاق الذي يتميز بها أولئك ذوي الصلة بالعلاقات بين كوبا وهذا البلد، أدلى متحدث باسم البيت الأبيض بتصريحات على الفور موجهة إلى العالم كلّه، ذكر فيها تلك الحادثة، محمّلاً المسؤولية، أو كاد، للوفد الكوبي. وسعادته طبعاً، السيد مندوب الولايات المتحدة في هذه الجمعية لم يتأخر في الالتحاق بهذه المهزلة، وذلك بتوجيهه برقية للحكومة الفنزويلية لتعزية ذوي الضحية، كما لو أنه كان يشعر بالالتزام بأن عليه أن يقدّم تفسيراً من الأمم المتحدة لشيء يفترض أن مسؤوليته تقع على الوفد الكوبي.

لكن هذا ليس كل شيء. فعندما أُجبِرنا على ترك أحد فنادق هذه المدينة وغادرنا باتجاه مقر الأمم المتحدة، بينما كان يجري القيام بمساعٍ أخرى، جاء فندق، فندق بسيط بهذه المدينة، فندق زنوج هارليم، ليفتح لنا باب الإقامة فيه. وصل هذا الرد أثناء تحدثنا مع السيد الأمين العام. لكن مسؤولاً من وزارة الخارجية الأمريكية فعل كل ما بوسعه لمنع نزولنا في هذا الفندق. في تلك اللحظة، وبضربة ساحر، بدأت تظهر فنادق في نيويورك. بل وفنادق كانت قد رفضت استقبال الوفد الكوبي سابقاً، عرضت علينا وقتها الإقامة فيها حتى مجاناً. ولكن نحن، وانطلاقاً من مبدا المعاملة بالمثل، وافقنا على الإقامة في فندق هارليم. رأينا أن من حقنا أن نتوقّع أن يتركونا بسلام. لا، لم يتم تركنا بسلام.

في هارليم، ونظراً لعدم تمكنهم من منع إقامتنا في ذلك المكان، شرعوا بحملات التشهير. بدأوا الإشِاعة في العالم بأن الوفد الكوبي قد نزل في بيتٍ للدعارة. بعض السادة يرون أن فندقاً متواضعاً من حي هارليم، فندقاً لزنوج الولايات المتحدة، لا بد وأن يكون بيتاً للدعارة. بالإضافة لذلك، سعوا وما زالوا للتشهير بالوفد الكوبي، بدون أن يحترموا حتى الرفيقات الأعضاء فيه أو الذين يعملون مع وفدنا.

لو كنّا نحن من نوع النّاس الذي يريدون إظهارنا به بأي ثمن، لما كانت الإمبريالية قد فقدت الأمل، كما فقدته منذ زمن طويل، بشرائنا أو إغوائنا بطريقة ما. ولكن، بما أنهم قد فقدوا الأمل منذ زمن طويل، بل ولم يكن هناك ما يدفعهم لتعليقه، على الأقل بعد تأكيدهم بأن الوفد الكوبي قد نزل في بيت دعارة، من واجبهم أن يعترفوا أن الرأسمال النقدي الإمبريالي هو عاهرة لا تستطيع إغوائنا. وليس طبعاً "العاهرة الفاضلة" التي كتبها جان بول سارتر.

مشكلة كوبا. ربما كان بعضكم مطّلعاً، ولكن ربما البعض الآخر ليس كذلك. كل شيء يعتمد على مصادر المعلومات، ولكن مما لا شك فيه أن مشكلة كوبا، التي نشأت خلال السنتين الأخيرتين، هي بالنسبة للعالم مشكلة جديدة. لم يكن لدى العالم من الدوافع ما يكفي لمعرفته بوجود كوبا. كثيرون كانوا يرون فيها ما يشبه الملحق بالولايات المتحدة. بل أن كثيرين من مواطني هذا البلد كانوا يرون في كوبا مستعمرة للولايات المتحدة. لم تكن كذلك على الخارطة؛ فعلى الخارطة نحن نظهر بلون يختلف عن الولايات المتحدة. ولكن في الواقع كانت ذلك.

كيف وصل الأمر ببلدنا لأن يصبح مستعمرةً للولايات المتحدة؟ ليس بسبب أصوله طبعاً. ليس الجماعات التي استعمرت الولايات المتحدة هي نفسها التي استعمرت كوبا. لكوبا أصل عرقي وثقافي مختلف تماماً، وهذا الأصل تعزّز على مدى قرون من الزمن. هي آخر بلدان القارة الأمريكية التي تحررت من الاستعمار الإسباني، من نير الاستعمار الإسباني، مع الاعتذار من صاحب السيادة، ممثل الحكومة الإسبانيّة. ولكنها الأخيرة، وقد اضطرت لأن تقارع بشدة أكبر أيضاً.

لم يكن قد تبقّى لإسبانيا إلا مُلكيَّة واحدة في القارة الأمريكية، وقد دافعت عنها بعناد وضراوة. شعبنا الصغير، الذي بالكاد كان عدد أبنائه يتجاوز المليون نسمة آنذاك، اضطر لأن يواجه بمفرده على مدار نحو ثلاثين سنة واحداً من الجيوش التي كانت تعتبر الأقوى في أوروبا. وصل الأمر بالحكومة الإسبانيَّة أن تحشد كمّا من القوات يوازي عدد كل القوات التي واجهت حروب استقلال أمريكا الجنوبية مجتمعة. وصل إلى نصف مليون عدد الجنود الإسبان الذين قارعهم شعبنا البطل في سبيل تحقيق مأربه الذي لا ينثني في أن يكون حراً.

كافح الكوبيون بمفردهم ثلاثين عاماً من أجل استقلالهم. ثلاثون عاماً تشكّل أيضاً قُرارة عشق حريّة واستقلال وطننا. لكن كوبا كانت، برأي أحد رؤساء الولايات المتحدة في بدايات القرن الماضي، وهو جون آدامز، أشبه بتفاحة عالقة بالشجرة الإسبانيةّ توشك على السقوط، في حال نضوجها، بأيدي الولايات المتحدة. كانت القوة الإسبانيّة قد استُنزفت في وطننا. ولم يعد لدى إسبانيا حينها لا الرجال ولا الموارد الاقتصاديّة اللازمة للمضيّ بحربها في كوبا؛ فأصبحت في موقع المهزوم. باتت التفاحة ناضجة ظاهريّاً، فمدّت حكومة الولايات المتحدة أيديها لالتقاطها.

لم تسقط تفّاحة واحدة، بل سقطت عدة تفاحات بأيديها. فقد سقطت بورتوريكو، بورتوريكو البطلة، التي كانت قد بدأت كفاحها من أجل الاستقلال بالتزامن مع الكوبيين؛ وسقطت جزر الفلبين، كما سقطت عدة ممتلكات أخرى. لكن سيناريو الهيمنة على بلدنا لم يمكنه أن يكون على ذات الشاكلة. فقد كان بلدنا قد خاض حرباً ضارية وكان يحظى برأي عام عالمي لصالح قضيته. كان يتعيّن تغيير السيناريو.

وصل الأمر بالكوبيين الذين كافحوا من أجل استقلالنا، الكوبيين الذين كانوا في تلك اللحظات يقدمون دماءهم وأرواحهم، لأن يصدّقوا عن حسن نيّة ذلك القرار المشترك الصادر عن الكونغرس الأمريكي في العشرين من نيسان/أبريل 1898، الذي يعلن بأن كوبا حرة ومستقلّة ومن حقها أن تكون كذلك.

كان شعب الولايات المتحدة متعاطفاً مع كفاح الشعب الكوبي. ذلك البيان المشترك كان عبارة عن قانون يصدره كونغرس ذلك البلد، ويعلن بموجبه الحرب على إسبانيا. لكن ذلك الحُلم انتهى إلى خديعة قاسية. فبعد سنتين من الاحتلال العسكري لوطننا، حدث ما لم يكن متوقعاً: في ذات اللحظة التي كان الشعب الكوبي يصيغ فيها، من خلال جمعية تأسيسية، دستور الجمهورية، جاء قانون من الكونغرس الأمريكي، وهو قانون اقترحه السيناتور بلات، سيئ الصيت بالنسبة لكوبا. ونصّ ذلك القانون على أن من واجب الجمعية التأسيسية الكوبية أن تعتمد مادّة تمنح حكومة الولايات المتحدة حق التدخل في المشكلات السياسة الكوبية، وبالإضافة لذلك الحقّ باستئجار أماكن معيّنة من أراضيها لإقامة محطّات بحريّة أو للتزويد بالفحم.

أي أنه من خلال قانون منبثق عن سلطة تشريعيّة لبلد أجنبي، كان يتعيّن على دستور وطننا أن يحتوي على هذه المادة، وقد تم توجيه أعضاء جمعيتنا التأسيسيّة بأنه من دون اعتماد هذا "التعديل" لن يتم سحب قوات الاحتلال. أي أنه قد فُرض بالقوّة على وطننا، من قبل هيئة تشريعية لبلد آخر، منح الحق بالتدخل والحق باستئجار قواعد ومحطّات بحرية.

من المفيد للبلدان حديثة العضوية في هذه المنظمة، البلدان التي تبدأ حياتها المستقلّة اليوم، أن تتذكّر جيداً تاريخ وطننا، وذلك لأوجه الشبه التي يمكن أن تجدها في طريقها. وإن لم يكن هذه الشعوب، فتلك التي تأتي خلفها، أو أبنائها أو أحفادها، مع أنه يبدو لنا بأنه لن نصل إلى كل هذه المسافة.

بدأ حينها الاستعمار الجديد لوطننا: اقتناء أفضل الأراضي الزراعية من قبل الشركات الأمريكية؛ حقوق امتياز بموارده الطبيعيّة وثرواته المعدنية؛ حقوق امتياز بالخدمات العامة، من أجل استغلال الخدمات العامة؛ حقوق امتياز تجارية، حقوق امتياز من كل صنف ونوع، والتي إذا ما أضفناها للحق الدستوري –دستوري بالقوة- بالتدخّل في وطننا، وجدنا أنها قد حوّلت وطننا من مستعمرة إسبانيّة إلى مستعمرة أمريكية.

المستَعمرات لا صوت لها، المستعمرات لا تُعرَفُ في العالم إلى أن تتاح لها الفرصة للكلام. ولهذا فإن مستعمرتنا لم تكن معروفة للعالم، ومشكلات مستعمرتنا لم تكن معروفة للعالم. في كتب الجغرافيا كان يظهر علم آخر، درع آخر؛ في الخرائط الجغرافية كان يظهر لون آخر، ولكن لم تكن توجد هناك جمهورية مستقلَّة. لا يخدعنّ نفسه أحد، فبخداع أنفسنا لا نفعل أكثر من إثارة السخرية؛ فلا يخدعنّ أحد نفسه، لم يكن هناك وجود لجمهورية مستقلّة، إنما كانت توجد مستعمرة، حيث سفير الولايات المتحدة هو صاحب الأمر.

لا يخجلنا أن نعلن عن ذلك، فمقابل هذا الخجل هناك الفخر بأن نستطيع القول أن أي سفارة اليوم لا تحكم شعبنا، شعبنا يحكمه الشعب! (تصفيق).

اضطرت الأمة الكوبية إلى اللجوء مجدداً للكفاح من أجل تحقيق هذا الاستقلال. حقّقته بعد سبع سنوات من الاستبداد الدمويَّ. من الذي استبدَّ بها؟ استبدَّ بها أولئك الذين لم يكونوا في بلدنا أكثر من أدوات بأيدي المهيمنين على وطننا اقتصادياً.

كيف يمكن لنظام لا شعبي ومعادٍ لمصالح الشعب أن يحافظ على وجوده إن لم يكن بالقوّة؟ هل سيتعيّن علينا أن نشرح نحن هنا لممثلي شعوبنا الشقيقة في أمريكا اللاتينية ما هي الدكتاتوريّات العسكرية؟ هل علينا أن نشرح لهم كيف حافظت وتحافظ على وجودها؟ هل علينا أن نشرح لهم تاريخ العديد من هذه الدكتاتوريات التي أصبحت اليوم كلاسيكيّة؟ هل علينا أن نشرح لهم على أي قوى يعتمدون، وإلى أي مصالح قومية ودوليّة يستندون؟

المجموعة العسكريّة التي استبدّت ببلدنا كانت تستند إلى القطاعات الأشد رجعية في البلاد، وكانت تستند بشكل خاص إلى المصالح الاقتصادية الأجنبيّة التي كانت تهيمن على اقتصاد وطننا. الجميع يعرف ونحن ندرك أنه حتى حكومة الولايات المتحدة نفسها تعرف بما سبق، والكل يعرف أن هذا هو نوع الحكم الذي تفضّله الاحتكارات. لماذا؟ لأنه بواسطة القوّة يتم قمع كل مطلب للشَّعب، بواسطة القوة يتم قمع المظاهرات المطالِبة بظروف حياتيَّة أفضَل، بواسطة القوّة كانوا يقمعون الحركات الفلاحيّة المطالِبة بامتلاك الأرض، وبواسطة القوّة كان يتم قمع أغلى آمال وطموحات الأمّة.

ولهذا، فإن أنظمة القوّة كانت نوع الحكم المفضّل بالنسبة للقائمين على سياسة الولايات المتحدة. ولهذا حافظت حكومات قوّة على وجودها في السلطة لفترات طويلة من الزمن، وحكومات قوّة ما تزال تحافظ على وجودها في السلطة في القارة الأمريكية. طبعاً، كل شيء يعتمد على الظروف لكي تحظى أو لا تحظى بدعم حكومة الولايات المتحدة.

على سبيل المثال، يقولون الآن أنهم يقفون ضد واحدة من حكومات القوّة هذه: حكومة تروخيجو، ولكنهم لا يقولون بأنهم يقفون ضد واحدة أخرى من حكومات القوة هذه، حكومة نيكاراغوا أو حكومة باراغواي، على سبيل المثال. حكومة نيكاراغوا لم تعد حكومة قوّة، إنها نظام ملكي تبلغ من الدستورية تقريباً ما تبلغه ملكيّة إنكلترا، حيث تنتقل السلطة من الآباء إلى الأبناء، وكما أمكن أن يحدث ما يشبه ذلك في وطننا. حكومة فولخينسيو باتيستا كانت من نوع حكومة القوّة، الحكومة التي تلائم الاحتكارات الأمريكية في كوبا، لكنه لم يكن طبعاً نوع الحكومة الملائم للشعب الكوبي، والشعب الكوبي، بتكلفة كبيرة من الأرواح والتضحيات، اقتلعها من السلطة.

ما الذي وجدته الثورة عندما وصلت إلى السلطة في كوبا؟ ما هي المعجزات التي وجدتها الثورة عندما وصلت إلى السلطة في كوبا؟ وجدت أولاً أن 600 ألف كوبي ذوي كفاءات للعمل بلا وظائف؛ وهو رقم مماثل من حيث النسبة لعدد العاطلين عن العمل في الولايات المتحدة عندما وقعت الأزمة الكبرى التي هزّت هذا البلد، وهذه البطالة التي كادت أن تؤدي إلى كارثة في الولايات المتحدة، كانت ظاهرة دائمة في وطننا. بين عدد من السكان يزيد بقليل عن الستة ملايين نسَمة، كان هناك ثلاثة ملايين شخص لا يتمتعون بنور الكهرباء ولا بأي من فوائد وتسهيلات الكهرباء. من بين ما مجموعه أكثر من ستة ملايين نسَمة بقليل، كان يعيش ثلاثة ملايين و500 ألف في خيم وأكواخ وغرف من التنك، بدون الحدّ الأدنى من شروط العيش. في المدن، كانت أجور المنازل تمتص ما يصل إلى ثلث المداخيل العائلية. الخدمة الكهربائية وأجور المنازل على حد سواء كانت من أكثرها غلاء في العالم. 37,5 بالمائة من مواطنينا كانوا أميّين، لا يعرفون القراءة ولا الكتابة؛ 70 بالمائة من أطفالنا في الريف لم يكن لديهم معلّمين؛ اثنان بالمائة من مواطنينا مصابين بداء السّل؛ أي 100 ألف شخص بين عدد من السكان يزيد بقليل عن ستّة ملايين. 95 بالمائة من أطفالنا في الريف كانوا مصابين بالطّفيليّات؛ وعليه فإن نسبة الوفيات بين الأطفال كانت مرتفعة جداً، ومتوسط الأعمار متدنّي جداً. من ناحيّة أخرى، 85 بالمائة من صغار الفلاحين كانوا يدفعون أجوراً بدل حيازتهم لأراضيهم تصل نسبتها حتى 30 بالمائة من مداخيلهم الصافية، بينما 1,5 بالمائة من مجموع الملاكين كانوا يسيطرون على 46 بالمائة من مجمل مساحة البلاد. عدد أسرّة المستشفيات مقابل العدد المحدد من مواطني البلاد كان تافهاً بالتأكيد عندما نقارنه مع بلدان على درجة متوسطة من الاهتمام بالرعاية الطبية.

الخدمات العامة وشركات الكهرباء وشركات الهاتف كانت ممتلكات لاحتكارات أمريكية.

جزء كبير من المصارف، وجزء كبير من تجارة الاستيراد ومصافي النفط، والجزء الأكبر من صناعة السكّر، وأفضل الأراضي في كوبا وأهم الصناعات في كل المجالات كانت ملكاً لشركات أمريكية. ميزان المدفوعات خلال السنوات العشر الأخيرة، من عام 1950 إلى عام 1960، كانت لصالح الولايات المتحدة بالنسبة لكوبا بفارق ألف مليون دولار.

وهذا من دون ذكر الملايين ومئات الملايين من الدولارات المُستخرَجة من الخزينة العامّة على يد حكّام النظام المستبدّ الفاسدين والمودعة في بنوك الولايات المتحدة أو في بنوك أوروبيّة.

عشرة آلاف مليون دولار في عشر سنوات. البلد الفقير والنامي بحوض الكاريبي، الذي كان لديه 600 ألف عاطل عن العمل يُسهم في التطوير الاقتصادي للبلد الأكثر تطوراً صناعياً في العالم.

هذا هو الوضع الاقتصادي الذي وجدناه نحن، وهذا الوضع ليس بغريب على كثير من البلدان الممثَّلة في هذه الجمعيَّة، لأن ما ذكرناه عن كوبا، في نهاية المطاف، ليس إلا صورة شعاعيّة للتشخيص العام الذي ينسحب على جزء كبير من البلدان الممثَّلَة هنا.

ماذا كان عليه الخيار أمام الحكومة الثورية؟ خيانة الشعب؟ طبعاً، ما فعلناه نحن من أجل شعبنا هو بالنسبة للسيد رئيس الولايات المتحدة خيانة لشعبنا؛ وليس من شأنه أن يكون كذلك بالتأكيد لو أننا بدلاً من الوفاء لشعبنا كنّا أوفياء للاحتكارات الكبرى الأمريكية التي كانت تستغلّ اقتصاد بلدنا. على الأقل ما تزال هناك أدلّة على "المعجزات" التي وجدتها الثورة عندما وصلت إلى السلطة، والتي لا تزيد ولا تقلّ عن معجزات الإمبريالية، وهي بدورها، لا تزيد ولا تقلّ، عن "معجزات" "العالم الحر" بالنسبة إلينا نحن البلدان المستعمَرَة!

لا يمكن لأحد أن يحمّلنا نحن مسؤولية وجود 600 ألف عاطل عن العمل؛ 37,5 بالمائة من المواطنين أميين؛ 2 بالمائة مصابون بداء السّل؛ 95 بالمائة تأكلهم الطفيليّات. لا! حتى تلك اللحظة لم يكن لأي منّا أي دور في رسم حاضر ومستقبل وطننا؛ حتى تلك اللحظة كان الدور في رسم حاضر ومستقبل وطننا لحكّام يخدمون مصالح الاحتكارات، وحتى تلك اللحظة كان الدور في وطننا للاحتكارات. هل عرقل طريقها أحد؟ لا! لم يعرقل طريقها أحد. هل عكّر صفوها أحد؟ لا! لم يعكّر صفوها أحد. لقد تمكّنوا من القيام بما عليهم ونحن وجدنا نتائج الاحتكارات.

كيف كان عليه حال احتياط الأمّة؟ عندما وصل الدكتاتور باتيستا إلى السلطة، كان هناك 500 مليون دولار في الاحتياط القومي، وهو مبلغ كان جيّداً لاستثماره في التطوير الصناعي للبلاد.

عندما وصلت الثورة إلى السلطة كان يوجد في احتياطنا 70 مليوناً.

أهو اهتمام بالتطوير الصناعي لبلدنا؟ لا! أبداً! ولهذا تبلغ ما تبلغه دهشتنا، ولم نخرج من دهشتنا بعد، عندما نسمع من يتحدث هنا عن اهتمام حكومة الولايات المتحدة ما فوق العادي بمصير بلدان أمريكا اللاتينية، بلدان أفريقيا وبلدان آسيا. لا نخرج من دهشتنا، لأننا وبعد خمسين سنة رأينا الثمار أمامنا.

ماذا فعلت الحكومة الثوريّة؟ ما هي الجريمة التي ارتكبتها الحكومة الثورية لكي نلقى المعاملة التي لقيناها هنا، لكي نواجه أعداء يبلغون من الشدّة ما ثبت هنا بأنهم عليها تجاهنا؟

هل المشكلات مع حكومة الولايات المتحدة بدأت منذ اللحظة الأولى؟ لا! هل أننا لدى وصولنا إلى السلطة تملّكنا الهدف في خلق مشاكل دوليّة لأنفسنا؟ لا! ليس هناك من حكومة ثورية وصلت حديثاً إلى السلطة تسعى لمشكلات دوليّة. ما تريده هو تكريس جهدها لحل مشكلاتها الخاصة، ما تريده هو السير قدماً في تنفيذ برنامج، كما تريده الحكومات المهتمّة فعلاً في تقدّم بلدها.

الظرف الأول الذي اعتبرناه نحن عملاً عدائيّاً هو فتح أبواب هذا البلد على مصراعيها أمام كل عصابة من المجرمين ممن أدموا وطننا؛ أمام أشخاص وصل بهم الأمر لقتل مئات الفلاحين العزّل، ممن لم يكلّوا من تعذيب سجناء على مدار سنوات طويلة، ممن قتلوا يسرة ويُمنى، تم استقبالهم هنا بذراعين مفتوحَين. وهذا لم يبعث الغرابة عندنا. لماذا هذا الفعل العدائي من قبل سلطات الولايات المتحدة تجاه كوبا؟ لماذا هذا الفعل العدواني؟ في تلك اللحظة لم ندرك الأمر جيداً، والآن ندرك تماماً الأسباب. هل تتواءم هذه السياسة مع التعامل الصحيح –فيما يتصل بكوبا- بالعلاقات بين الولايات المتحدة وكوبا؟ لا، لأن من أسيء إليهم هم نحن، والمساء إليهم هم نحن باعتبار أن نظام باتيستا قد حافظ على بقائه في السلطة بمساعدة حكومة الولايات المتحدة؛ نظام باتيستا قد حافظ على بقائه في السلطة بمساعدة دبّابات وطائرات وأسلحة زودته بها حكومة الولايات المتحدة؛ نظام باتيستا قد حافظ على بقائه في السلطة بفضل استخدام جيش تدرّب ضباطه على يد بعثة عسكرية تابعة لحكومة الولايات المتحدة؛ ونحن نأمل ألا يخطر على بال أي مسؤول أمريكي أن ينفي هذه الحقيقة.

بل وأنه عندما وصل "الجيش الثائر" إلى مدينة هافانا، كانت البعثة العسكريّة الأمريكية متواجدة في أهم معسكر في هذه المدينة. كان ذلك الجيش جيشاً منهاراً، كان جيشاً مهزوماً ومستسلماً. نحن كان بإمكاننا تماماً أن نعتبر أولئك العسكريين الأجانب المتواجدين هناك لمساعدة وتدريب أعداء الشعب أسرى حرب. لكن هذا لم يكن موقفنا، اقتصر موقفنا على الطلب من أعضاء تلك البعثة أن يعودوا إلى بلدهم، ففي نهاية المطاف نحن لم نكن بحاجة لدروسهم، وكان تلامذتهم مهزومون.

لدي هنا وثيقة (يظهرها). لا يستغربنّ أحد شكلها، لأنها وثيقة ممزّقة. إنها معاهدة عسكرية قديمة تلقت دكتاتوريّة باتيستا بموجبها مساعدة كبيرة من حكومة الولايات المتحدة، ومن المهم معرفة ما تقوله المادة الثانية من هذه الاتفاقيّة:

"تلتزم حكومة جمهورية كوبا بأن تستخدم بشكل فعّال المساعدة التي تتلقاها من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وفقاً لهذه الاتفاقية، وذلك بهدف تنفيذ الخطط الدفاعيّة المقبولة من جانب الحكومتين، والتي تنص على أن تشارك الحكومتان في بعثات هامة للدفاع عن النصف الغربي من العالم، وما لم يتم الحصول على موافقة حكومة الولايات المتحدة الأمريكية مسبقاً –أكرّر- وما لم يتم الحصول على موافقة حكومة الولايات المتحدة الأمريكية مسبقاً، لا تخصَّص هذه المساعدة لأهداف أخرى غير تلك التي قُدِّمت من أجلها".

خُصِّصَت المساعدة لمحاربة الثوار الكوبيين، ثم حظيت بموافقة حكومة الولايات المتحدة. ومع أنه قبل انتهاء الحرب بستة أشهر، فرض هذا البلد حظراً على الأسلحة المرسَلة إلى باتيستا، بعد ما يزيد بقليل عن ست سنوات من المساعدة العسكريّة، عندما أُعلِنَ بشكل مُهيب عن هذا الحظر التسليحي، حصل "الجيش الثائر" على أدلّة وثائقية تثبت بأنه قد أعيد تزويد قوات الدكتاتوريّة بثلاثمائة قذيفة من نوع "rockets" من أجل إطلاقها من الطائرات.

عندما كشف الرفاق في شؤون الهجرة النقاب عن هذه الوثائق أمام الرأي العام الأمريكي، لم تجد حكومة الولايات المتحدة حيلة أخرى غير القول بأننا مخطئون، وبأنهم لم يقدّموا مؤناً جديدة لجيش الدكتاتورية، وإنما هم بكل بساطة قد اكتفوا باستبدال بعض القذائف من عيار آخر لم تكن نافعة لطائراتها بقذائف أخرى تنفع لطائرات الدكتاتورية. وبالمناسبة، أطلقوها علينا أثناء وجودنا في الجبال. طريقة فريدة من نوعها لشرح التناقضات عندما لا تكون قابلة للشرح؛ فحسب شرحهم، لم يكن الأمر يتعلّق بمساعدة، وإنما تحوّلت في هذه الحالة إلى "استشارة فنية"...

ما هو السبب إذن، ما دامت موجودة هذه السوابق التي كانت دافعاً لاستياء شعبنا، حيث أن العالم كله يعرف، ويعرف هنا حتى الأكثر براءة بين الجميع، أنه في هذا العصر الحديث، ومع الثورة التي شهدتها المعدّات العسكرية، هذه الأسلحة من الحرب السابقة قد أكل الزمن عليها كلياً بالنسبة لحرب معاصرة؟ فبواسطة خمسين دبّابة أو عربة مصفّحة وبعض الطائرات الخارجة عن الموضة لا يمكن الدفاع عن أي قارّة، لا يمكن الدفاع عن أي نصف من العالم. لكنها تنفع من أجل قمع الشعوب العزلاء، وتنفع من أجل تخويف الشعوب. إنما هي تنفع ما تنفع له: تنفع للدفاع عن الاحتكارات. ولهذا فإن هذه المعاهدات للدفاع عن نصف العالم، أحسن لها أن تسمّى معاهدات للدفاع عن الاحتكارات الأمريكية.

بدأت الحكومة الثورية القيام بالخطوات الأولى. أوّل ما فعلته هو خفض قيمة بدل الإيجار الذي كانت تدفعه العائلات، وذلك بنسبة 50 بالمائة، باعتبار أنه، كما سبق وذكرنا، كان هناك عائلات تدفع ما يصل إلى ثلث مدخولها. وكان الشعب قد ذهب ضحية مضاربة كبرى في المسكن، وكانت الأراضي الحضرية قد وقعت في فخ المضاربات على حساب اقتصاد الشعب. ولكن، عندما خفَّضت الحكومة الثورية قيمة بدل الإيجار بنسبة 50 بالمائة كان هناك من استاء. نعم، بعض قليل ممن كانوا يملكون تلك المباني من الشقق، بينما الشعب نزل إلى الشارع تملأه السعادة، كما يمكن أن يحدث في أي بلد كان، هنا في نيويورك نفسها، لو تم خفض قيمة بدل الإيجار بنسبة 50 بالمائة لكل العائلات. لكن ذلك لم يعنِ أي مشكلة بالنسبة للاحتكارات. بعض الشركات الأمريكية كان لديها منشآت عمرانية كبرى، لكنها قليلة نسبياً.

جاء بعدها قانون آخر. جاء قانون يُلغي حقوق الامتياز التي كانت حكومة فولخينسيو باتيستا المستبدة قد منحتها لشركة الهاتف، التي كانت احتكاراً أمريكياً. ففي ظل عجز الشعب عن الدفاع، كانوا قد حصلوا على حقوق امتيازات مدرّة للأرباح. الحكومة الثورية ألغت هذه الحقوق وأعادت أسعار الخدمات الهاتفيّة إلى المستوى الذي كانت عليه في السابق. بدأ حينها أول نزاع مع الشركات الاحتكاريّة الأمريكية.

الإجراء الثالث تمثّل في خفض أسعار الكهرباء، التي كانت من أكثرها ارتفاعاً في العالم. نشأ نزاع ثانٍ مع الشركات الاحتكاريّة الأمريكية. بدأنا نحن نظهر حينها كشيوعيين، بدأوا بطلينا باللون الأحمر، لأننا تصادمنا بكل بساطة بمصالح الشركات الاحتكاريّة الأمريكية.

ولكن جاء القانون الثالث، وهو قانون لا غنى عنه، قانون حتمي ولا يمكن تفاديه بالنسبة لوطننا، وحتمي عاجلاً أم آجلاً بالنسبة لكل شعوب العالم... على الأقل بالنسبة لكل شعوب العالم التي لم تعتمده بلدانها بعد، وهو قانون الإصلاح الزراعي. واضح أنه من الناحية النظرية، العالم كلّه يؤيِّد الإصلاح الزراعي. لا أحد يتجرأ على نفي ذلك، لا أحد إلا إذا كان جاهلاً، يتجرأ على النفي بأن الإصلاح الزراعي هو، في البلدان النامية من العالم، شرط أساسي من أجل تحقيق التنمية الاقتصاديّة. وفي كوبا أيضاً، حتى كبار ملاكي الأراضي كانوا يؤيّدون الإصلاح الزراعي، ولكن إصلاحاً زراعيّاً على طريقتهم، وخصوصاً، الا يصل الأمر إلى تطبيقه، سواء كان على طريقتهم أو بأي طريقة أخرى، ما دام بالإمكان تفادي ذلك! إنه أمر تعترف به الهيئات الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة، وهو أمر لا يجادل فيه أحد. في بلدنا كان أمراً لا بدّ منه: أكثر من 200 ألف عائلة كانت تعيش في أرياف وطننا، من دون أن تملك أرضاً تزرع فيه الأغذية الأساسيَّة.

بدون الإصلاح الزراعي، ما كان بوسع بلدنا أن يقوم بخطوته الأولى نحو التنمية. وبالفعل، قمنا بهذه الخطوة: أجرينا إصلاحاً زراعيّاً. وكان إصلاحاً زراعيّاً جذريّاً. هل كان جذرياً جداً؟ لم يكن إصلاحاً زراعياً جذرياً جداً. أجرينا إصلاحاً زراعياً يلبّي احتياجاتنا من أجل التنمية، يتناسب مع إمكانياتنا للتنمية الزراعيَّة. أي إصلاح زراعي يحل مشكلة الفلاحين بلا أرض، ويحل مشكلة التموين بتلك الأغذية الضرورية، ويحل مشكلة البطالة الكبيرة في الريف، ويُنهي تلك المأساة المريعة التي كنّا قد وجدناها في أرياف بلدنا.

هنا نشأت أول عقبة حقيقيَّة. في جمهورية غواتيمالا المجاورة أيضاً كان قد حدث الشيء نفسه. عندما أجري الإصلاح الزراعي في غواتيمالا، بدأت المشكلات هناك. وبكل صدق أحذّر الرفاق المندوبين من أمريكا اللاتينية ومن أفريقيا وآسيا: عندما تهمّون بإجراء إصلاح زراعي عادل، استعدّوا لمواجهة أوضاع مماثلة لوضعنا، لا سيّما إذا كانت أفضل وأكبر المزارع ملكاً للشركات الاحتكاريَّة الأمريكية، كما كان يحدث في كوبا (تصفيق مطوَّل).

ربّما يتهموننا لاحقاً بأننا نقوم بإعطاء نصائح سيئة في هذه الجمعيّة، وهذا، بالمناسبة، ليس هدفنا.. ليس هدفنا أن نُؤرق أحداً. إنما نحن ببساطة نستعرض الوقائع، مع أن الوقائع كافية لكي تؤرق أياً كان.

طُرحت على الفور مشكلة الدّفع. بدأت تهطل المذكّرات من وزارة الخارجية الأمريكية. لم يسبق لهم أن سألونا أبداً عن مشكلاتنا؛ أبداً، ولا حتى بدافع الإشفاق أو بدافع المسؤولية الكبرى التي تقع على كاهلهم، كم عدد الأشخاص الذين يموتون جوعاً في بلدنا، أو كم عدد المصابين بداء السلّ، أو عدد الأشخاص العاطلين عن العمل. لا. شعور بالتضامن تجاه احتياجاتنا؟! أبداً. كل أحاديث ممثلي حكومة الولايات المتحدة كانت تدور عن شركة الهاتف، عن شركة الكهرباء، وعن مشكلة أراضي الشركات الأمريكية.

كيف سنقوم بالدفع؟ طبعاً، أول ما كان يتعيّن سؤاله هو بماذا سندفع، ليس كيف، وإنما بماذا. هل تتصورون أنتم بلداً فقيراً، نامياً، فيه 600 ألف عاطل عن العمل، بمؤشر يبلغ كل ذلك الارتفاع من الأميّة، واستنفدت احتياطاته، وأسهم في اقتصاد بلد قوي بألف مليون دولار خلال عشر سنوات، يمكنه أن يملك ما يدفع به بدل الأراضي المتضررة من الإصلاح الزراعي، أو على الأقل دفعها بالشروط التي يريدون هم أن يتم دفعها بها؟

ماذا طرحت علينا وزارة الخارجية الأمريكية، كآمال لمصالحها المتضرِّرة؟ ثلاثة أمور: الدفع عاجلاً...، "الدفع بشكل عاجل، وفعّال وعادل". هل تفهمون هذه اللغة؟ "الدفع بشكل عاجل، وفعّال وعادل". هذا يعني: "الدفع الآن حالاً، وبالدولار الأمريكي والقيمة التي نطلبها نحن مقابل مزارعنا" (تصفيق).

لم نكن شيوعيين بنسبة 150 بالمائة بعد (ضحك). كان لوننا أقلّ حمرة بقليل من الأحمر. نحن لم نكن نصادر الأراضي؛ إنما ببساطة اقترحنا عليهم أن نسدّد خلال عشرين سنة، وبالطريقة الوحيدة التي نستطيع أن ندفع بها: بسندات تنتهي صلاحيّتها بعد عشرين سنة؛ بأن يقبضوا الأربعة ونصف بالمائة من الفوائد وأن يتم الأخذ بالتسديد عاماً بعد عام.

كيف كنّا سنستطيع أن ندفع نحن بالدولار الأمريكي، وكيف كنّا سنستطيع التسديد فوراً، وكيف كنّا سنستطيع أن ندفع لهم ما يطلبون؟ إنه أمر خارج عن المنطق. يدرك أي كان أنه ضمن تلك الظروف كان علينا أن نختار بين القيام بالإصلاح بالزراعي أو عدم القيام به. إذا لم نفعل، كان الوضع الاقتصادي المريع لبلدنا سيستمر إلى ما لا نهاية. وإذا ما قمنا به، إنما نعرّض أنفسنا لعداء حكومة جارتنا الجبّارة في الشمال.

قمنا بالإصلاح الزراعي. طبعاً، بالنسبة لمندوب عن هولندا، مثلاً، أو عن أي بلد أوروبي، يمكن للحدود الموضوعة للمزارع أن تبعث الدهشة عملياً. مدهشَة من حيث مساحتها الواسعة. الحدّ الأقصى الذي يحدده قانوننا الزراعي كان يبلغ 400 هكتار. 400 هكتار في أوروبا تعني مساحة شاسعة بالفعل؛ في كوبا، حيث كان يوجد شركات احتكاريّة أمريكية تمتلك حتى ما مساحته 200 ألف هكتار.. مائتا ألف هكتار! لعلّ أحد لم يسمع الرقم جيداً – أن يقلّص إصلاح زراعي في كوبا الحدّ الأقصى إلى 400 هكتار هو بالنسبة للشركات الاحتكارية أمر غير مقبول.

لكن المسألة أنه في بلدنا ليس فقط الأراضي كانت ملكية للشركات الاحتكاريّة الأمريكية. فالمناجم الرئيسية كانت أيضاً ملكاً لهذه الشركات. كوبا تنتج، على سبيل المثال، كميّات كبيرة من النيكل؛ وكل هذه الكميّات كانت تستغلّها مصالح أمريكية. وفي ظل دكتاتوريّة باتيستا، شركة أمريكية واحدة، وهي شركة "Moa Bay"، كانت قد حصلت على حق امتياز يدرّ عليها من الأرباح درجة أنه خلال خمس سنوات فقط –اسمعوا جيداً- خلال خمس سنوات كانت ستستعيد استثماراً قيمته 120 مليون دولار، استثمار بقيمة 120 مليون دولار، يمكن استعادته خلال خمس سنوات.

ومن الذي كان قد أعطى حق الامتياز هذا لشركة "Moa Bay"، بوساطة سفير حكومة الولايات المتحدة؟ ببساطة، هي حكومة فولخينسيو باتيستا المستبدَّة، الحكومة التي كانت قائمة هناك من أجل الدفاع عن مصالح الشركات الاحتكاريَّة. وهذه واقعة صحيحة كلياً. معفية من دفع أي ضريبة، ماذا كانت ستترك تلك الشركات لنا نحن الكوبيين؟ حُفَر المناجم، الأرض المُفقَرة، بدون الحد الأدنى من الإسهام في التنمية الاقتصادية لبلدنا.

واعتمدت الحكومة الثورية قانون المناجم، لتجبر تلك الشركات الاحتكارية على دفع ضريبة نسبتها 25 بالمائة على الصادرات من هذه المعادن. موقف الحكومة الثورة بدا لهم بالغ الجرأة. فقد كان قد اصطدم بمصالح "ترست" الكهرباء الدوليّة، وكان قد اصطدم بمصالح "ترست" الهاتف الدوليّة، وكان قد اصطدم بمصالح "ترست" المناجم الدوليّة، وكان قد اصطدم بمصالح شركة "United Fruit Company"، وكان قد اصطدم افتراضياً مع أهم مصالح الولايات المتحدة، والتي كما تعرفون هي شديدة الترابط فيما بينها. وكان ما فعلناه أكثر ما كان يمكن أن تتحمّله حكومة الولايات المتحدة أن تتحمّله، أو بالأحرى، ممثلو الشركات الاحتكاريَّة الدوليَّة. وبدأت حينها مرحلّة جديدة من المضايقَة لثورتنا. كل من يبحث الوقائع بشكل موضوعي، كل من يكون مستعداً للتفكير بنزاهة، وليس التفكير وفقاً لم تقوله "يونايتد برس إنترناشونال" أو الـ "أسوشييتد برس"، إنما التفكير بدماغه والخروج باستنتاجات يمليها عليه عقله ورؤية الأمور بدون أحكام مسبقة، بصدق ونزاهة، هل ما صنعته الحكومة الثورية كان دافعاً لعقد النية على تدمير الثورة الكوبية؟ لا. ولكن المصالح المتضررة من الثورة الكوبية لم تكن تهمها حالة كوبا، ولم تكن ستكسرها إجراءات الحكومة الثورية الكوبية، لم تكن المشكلة تتمثّل في ذلك. المشكلة كانت تكمن في أن هذه المصالح نفسها تملك ثروة معظم شعوب العالم ومواردها الطبيعية. وكان لا بد من معاقبة الثورة الكوبية على موقفها. إجراءات انتقامية من كل نوع، وصولاً إلى تدمير أولئك الأشقياء، كان لا بدّ من تلي جسارة الحكومة الثورية.

نقسم بشرفنا أنه حتى ذلك الحين لم تكن الفرصة قد أتيحت لنا ولا حتى لتبادل رسالة واحدة مع السيد رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي، نيكيتا خروتشوف. أي أنه في الوقت الذي كانت فيه الصحافة الأمريكية والوكالات الدولية تنقل للعالم أن الحكومة في كوبا هي حكومة حمراء، خطر أحمر على مسافة تسعين ميلاً من الولايات المتحدة، حكومة يسيطر عليها الشيوعيّون، لم تكن الفرصة قد أتيحت بعد أمام الحكومة الثورية لكي تقيم علاقات دبلوماسيّة أو تجاريّة مع الاتحاد السوفييتي.

لكن الهستيريا على كل شيء قديرة. فالهستيريا قادرة على جعل التأكيدات بعيدة عن الواقع وأبعد مسافة عن المعقول. طبعاً، لا يظنّن أحد أننا سننشد هنا "mea culpa" (أنا المُذنب). ولا "mea culpa" من أي نوع كان. فنحن ليس علينا أن نطلب الصفح من أحد. وما فعلناه، فعلناه عن كامل إدراك، وعلى الأخص عن قناعة تامّة بحقنا في فعله. (تصفيق مطوّل).

بدأ إطلاق التهديدات لحصتنا من مبيعات السكّر، بدأت فلسفة الإمبريالية الرخيصة تكشف عن نبلها، نبلها الأناني والاستغلاليّ، تكشف طيبتها مع كوبا، حيث كانوا يدفعون لنا سعراً تفضيلياً للسكّر، وكان ذلك كمعونة للسكّر الكوبي، الذي لم يكن سكّراً بالغ الحلاوة بالنسبة للكوبيين، باعتبار أننا نحن الكوبيون لم نكن أصحاب أفضل الأراضي المنتجة للقصب، ولا كنّا أصحاب أكبر مصانع السكّر، وأنه، فوق هذا، كان ذلك التأكيد يخفي في طيّاته التاريخ الحقيقي للسكر الكوبي، تاريخ التضحيات التي تم فرضها على كوبا، وتاريخ المرّات التي كان لكوبا أن تعرضت فيها للعدوان الاقتصادي. قبل ذلك لم تكن القصة قصة حصة من مبيعات السكّر، إنما كانت قصة تعريفات جمركيّة؛ فبموجب واحد من تلك القوانين أو تلك المعاهدات التي كانت تُبرم بين "سمكة القرش" وبين "سمكة السردين"، حصلت الولايات المتحدة، من خلال اتفاق أسموه "المعاملَة بالمثل"، سلسلة حقوق امتياز لمنتجاتها، لكي تتمكن من المنافسة بشكل مريح، وإخلاء السوق الكوبي من منتجات "أصدقائها" الإنكليز أو الفرنسيين، كما يحدث أحياناً كثيرة بين "الأصدقاء". ومقابل ذلك، بعض حقوق الامتياز الجمركية لصادراتنا من السكر، والتي، من ناحية أخرى، كان بالإمكان تبديلها من جانب واحد، بمشيئة كونغرس الولايات المتحدة أو حكومتها. وهذا ما حدث.

عندما يرون مناسباً أكثر لمصالحهم، كانوا يرفعون التعريفات، ولا يعود بإمكان صادراتنا من السكر أن تدخل السوق الأمريكي، أو تدخله بشروط في غير صالحها. وعندما تقترب مرحلة حرب، كانوا يخفّضون التعريفات. طبعاً، بما أن كوبا كانت أقرب مصدر للتزوّد بالسكّر، كان لا بدّ من ضمان مصدر التموين هذا. كانت التعريفات متدنيّة، وكان الإنتاج مُحفَّزاً، وفي سنوات الحرب، عندما بلغت أسعار السكر ارتفاعاً يفوق الخيال، كنّا نحن نبيع السكّر للولايات المتحدة بأسعار متدنية، رغم أننا كنّا المصدر الوحيد لتزويدها.

كانت الحرب مشرفة على نهايتها، وعندما انتهت حلّت موجة الانهيارات على اقتصادنا. الأخطاء التي كانت ترتكب هنا في توزيع هذه المادة الأوليّة كنّا ندفع نحن ثمنها. الأسعار التي ارتفعت بصورة ما فوق العادية عند انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ مما حفّز الإنتاج بشكل هائل، انخفضت فجأة لتؤدي إلى إفلاس مصانع السكّر الكوبية، والتي انتقلت ببساطة هادئة إلى أيدي.. هل تعرفون مَن؟ انتقلت إلى أيدي البنوك الأمريكية، لأنه عندما كانت البنوك الكوبية تفلس، كانت البنوك الأمريكية في كوبا تزداد ثراء.

وهكذا استمرّ هذا الوضع حتى عقد الثلاثينات، حيث، وفي محاولة من حكومة الولايات المتحدة لإيجاد صيغة توفّق بها بين مصالحها التموينية وبين مصالح منتجيها المحليين، وضعت نظام الكوتات (الحصص في السوق)، فكان يفترض أن هذه الكوتة تقوم على أساس حجم المشاركة التاريخيّة لمختلف مصادر التموين في السوق، والتي سجّل بلدنا فيها حجماً من المشاركة تبلغ نسبته 50 بالمائة من تموين السوق الأمريكي. غير أنه لدى تحديد حجم الكوتات، وقفت مشاركتنا عند نسبة الـ 28 بالمائة، والتفضيلات، التفضيلات القليلة، التي كان ذلك القانون قد منحنا إياها أخذت تشريعات جديدة بإلغائها بشكل متتالي، وبالطبع، المستعمَرة كانت تعتمد على الدولة المستعمِرة؛ فاقتصاد المستعمَرَة قد نظَّمته الدولة المستعمِرة. كان على المستعمَرة أن تظل خاضعة للدولة المستعمِرة، وإذا ما اتخذت المستعمَرة إجراءات من أجل تحررها، تُتخَذ إجراءات لسحقها. إدراكاً منها لتبعيّة اقتصادنا لسوقها، شرعت حكومة الولايات المتحدة لتوجيه سلسلة من التحذيرات من أنه سيتم حرماننا من كوتة السكَّر الخاصة بنا. بموازاة ذلك كانت الولايات المتحدة ساحة لنشاطات أخرى، نشاطات المعادين للثورة.

عصر أحد الأيام حلّقت طائرة قادمة من بحار الشمال فوق أحد مصانعنا للسكّر وألقت قنبلة فوقه. كان حادثاً غريباً، حادثاً خارجاً عن المألوف، ولكن، بالطبع، نحن كنّا نعرف من أين تأتي تلك الطائرات.

طائرة أخرى، عصر يوم آخر، حلّقت فوق مزارعنا لقصب السكّر وألقت بعض القنابل الحارقة. وتلك الحوادث التي بدأت بشكل متفرّق، تواصلت بشكل منتظِم.

عصر أحد الأيام، وفي ما توافق مع زيارة عدد كبير من وكلاء السياحة من ذلك البلد، وفي خضم جهد كانت تبذله الحكومة الثورية لتشجيع السياحة كأحد مصادر الدخل القومي، قامت طائرة أمريكية الصنع، من تلك التي استُخدمت في الحرب الأخيرة، بالتحليق فوق عاصمتنا مطلقةً منشورات وبعض القنابل اليدوية. بطبيعة الحال، تحركت بعض قطع دفاعنا الجوي. كانت النتيجة أكثر من أربعين ضحيّة، بين القنابل التي تم إلقاؤها وبين نيران المضادات الجوية، حيث أن بعضاً من القذائف –كما تعرفون- يتفجّر لدى اصطدامه بجسم صلب. النتيجة: أكثر من أربعين ضحيّة. إناث من الأطفال بأمعاء خارج بطونهن، شيوخ من الرجال والنساء.. هل كانت تلك المرة الأولى بالنسبة لنا؟ لا. فأطفال، ذكور وإناث، وشيوخ، من الرجال والنساء، كانت قد تمزّقت أجسادهم في القرى الكوبية بفعل قنابل من صنع الولايات المتحدة تم التزويد دكتاتورية باتيستا بها.

إحدى المرّات قضى ثمانون عاملاً جرّاء انفجار غريب، غريب جداً، لسفينة تحمل أسلحة بلجيكيَّة كانت قد وصلت إلى بلدنا، وذلك بعد جهود مضنية كانت حكومة الولايات المتحدة قد بذلتها في سبيل منع الحكومة البلجيكيّة من بيعنا أسلحة. العشرات ذهبوا ضحية الحرب، ثمانون عائلة فقدت ارباب أسَرها في الانفجار. أربعون ضحية بفعل طائرة تحلّق بنفس مطمئنة فوق أراضينا. وسلطات الولايات المتحدة كانت تنفي أن تلك الطائرات قد انطلقت من أراضيها، لكن الطائرة كانت متوقّفة بطمأنينة في حظيرة، ولم يكن إلا عندما نشرت مجلةٌ صورة للطائرة أن صادرت سلطات الولايات المتحدة تلك الطائرة، مطلقة روايتها طبعاً والقائلة بأن ليس للحادثة أهمية تذكر، وأن الضحايا لم يكونوا ضحايا القنابل وإنما ضحايا نيران المضادات الجوية، أما مرتكبو تلك الأعمال، مرتكبو تلك الجريمة فإنهم يسيرون بنفس مطمئنة في شوارع الولايات المتحدة، حيث لم يتم حتى مساءلتهم عن المضي في ارتكاب تلك الأعمال العدوانية.

سعادة السيد، السيد مندوب الولايات المتحدة، أستغل الفرصة لأقول لكم بأن هناك أمهات كثيرات في أرياف كوبا وأمهات كثيرات في كوبا، ما زلن ينتظرن رسائل التعزية بأولادهن الذين قتلتهم قنابل الولايات المتحدة (تصفيق).

كانت الطائرة تروح وتجيء. لم يكن هناك أدلّة. حسناً، لا يُعرف ما الذي يُفهم من أدلّة. فهناك كانت الطائرة التي تم تصويرها ومصادرتها، ولكنهم قالوا بأن الطائرة لم تُلقِ قنابِل. لا يُعرف لماذا كانت السلطات الأمريكية على كل تلك الدرجة من الاطّلاع. تواصل تحليق طائرات القرصنة فوق أراضينا وإطلاقها للقنابل الحارقة. ملاين وملايين من البيسوات ضاعت في حقول قصب السكر المحروقة، وأشخاص كثيرون من أبناء الشعب، نعم! من الشعب الفقيرـ شاهدوا تدمير رزقهم، نعم لأنه أصبح الآن ملكهم، وأصيبوا بحروق وجروح في مواجهة ذلك القصف المتواصل والشديد على يد طائرات القرصنة.

حتى جاء يوم انفجرت فيه الطائرة مع انفجار قنبلة ألقتها على أحد مصانعنا للسكّر، فأتيحت الفرصة للحكومة الثورية لكي تجمع أشلاء الطيّار، وكان طياراً أمريكياً، تم العثور على وثائقه، وطائرة أمريكية وجميع الأدلّة عن المكان الذي خرجت منه. كانت تلك الطائرة قد مرّت بقاعدتين أمريكيتين. أصبحت المسألة غير قابلة للنفي بأن الطائرات كانت تخرج من الولايات المتحدة. حينها، نعم، أمام الدليل الذي لا يُدحَض، قدّمت حكومة الولايات المتحدة تفسيرها للحكومة الكوبية!. لم يكن موقفها ذات الموقف الذي اتخذته في حال طائرة الـ "يو-2"، حيث أنه عندما تم الإثبات بأن الطائرات كانت تخرج من الولايات المتحدة، لم تطالب الولايات المتحدة بحقها في حرق حقولنا المزروعة بالقصب، وإنما قالت بأنها تعتذر وتتأسف جداً. نحن محظوظون رغم كل شيء! لأنه عندما وقعت حادثة الـ "يو-2"، لم تعتذر حكومة الولايات المتحدة آنذاك، بل طالبت بحقها في التحليق فوق الأراضي السوفييتية! من سوء حظ السوفييت! (تصفيق)

لكن لم يكن لدينا نحن الكثير من المضادات الجوية وظلّت الطائرات تحلّق إلى أن انتهى موسم إنتاج السكّر. لم يعد هناك مزيد من القصب وتوقفت أعمال القصف. كنّا نحن البلد الوحيد في العالم في تحمّل هكذا مضايقة، مع أنني اذكر جيداً أنه بمناسبة زيارة الرئيس سوكارنو لكوبا، قال لنا أن الأمر ليس كذلك، بألاّ نظن بأننا البلد الوحيد، وبأنهم هم أيضاً قد واجهوا بعض المشكلات مع بعض الطائرات الأمريكية التي كانت تجوب سماء بلاده ايضاً. لا أدري إن كنت أقع في كشف ما لا يجب، لكن لا أتوقّع ذلك (ضحك وتصفيق).

الصحيح هو أنه في هذا النصف المسالم من العالم كنّا نحن البلد الوحيد الذين ومن دون أن يكون في حرب مع أحد، يتحمّل المضايقة المتواصلة من جانب طائرات القرصنة. وهل كان بإمكان تلك الطائرات أن تدخل أراضي الولايات المتحدة وتغادرها بدون عقاب؟ ندعو المندوبين إلى التمعُّن قليلاً كما ندعو شعب الولايات المتحدة، هذا إذا ما أتيحت له الفرصة بالصدفة للاطلاع على الأمور التي يجري بحثها هنا، للتمعّن في حقيقة أنه، حسب تأكيدات حكومة الولايات المتحدة نفسها، فإن أراضي الولايات المتحدة هي موضع مراقبة وحماية شديدتين في وجه أي اختراق جوي، وأن إجراءات حماية أراضي الولايات المتحدة عصية على الانتهاك. وأن إجراءات الدفاع عن العالم الذي يسمّونه "حرّاً" – لأنه بالنسبة لنا على الأقل لم يكن كذلك حتى يوم الأول من كانون الثاني/يناير 1959- هي إجراءات مُحكمة، وأن أراضي هذا البلد محميّة بالكامل. إذا كان الأمر كذلك، ما الذي يفسّر تمكّن طائرات، ليست أسرع من الصوت، وإنما مجرد طائرات صغيرة، بسرعة بالكاد تصل إلى 150 ميلاً، من دخول الأراضي القومية للولايات المتحدة ومغادرتها بطمأنينة، ومن مرورها في ذهابها بقاعدتين وفي إيابها بقاعدتين من دون حتى أن تدري حكومة الولايات المتحدة بأن هذه الطائرات تقوم بدخول الأراضي القومية ومغادرتها؟ هذا يعني أمران: إما أن حكومة الولايات المتحدة تكذب على الشعب الأمريكي وهي عاجزة عن الدفاع عن نفسها في وجه الانتهاكات الجوية، وإما أن حكومة الولايات المتحدة كانت متواطئة مع هذه الطلعات الجوية (تصفيق).

انتهت الطلعات الجوية وجاء حينها العدوان الاقتصادي. ما هي إحدى الحجج التي كان يشهرها أعداء الإصلاح الزراعي؟ كانوا يقولون بأن الإصلاح الزراعي يمكنه أن يجلب الفوضى في الإنتاج الزراعي، وأنه يمكن للإنتاج الزراعي أن ينخفض بشكل ملحوظ، وبأن حكومة الولايات المتحدة قلقة من عدم تمكّن كوبا من الوفاء بالتزاماتها في تزويد السوق الأمريكي. الذريعة الأولى، وهذا جيّد على الأقل لكي تأخذ الوفود الجديدة الحاضرة هنا بالتكيّف مع بعض الحجج، لأنها ربما يتعيّن عليها يوماً ما أن تردّ على ذرائع مماثلة: أن الإصلاح الزراعي يعني دمار البلاد. لم يحصل ذلك. لو أن الإصلاح الزراعي عنى دمار البلاد، ولو أن الإنتاج الزراعي انخفض، لما اضطرت الحكومة الأمريكية حينها لشن هجومها الاقتصادي.

هل كانوا يؤمنون فعلاً بما يقولون عندما كانوا يؤكدون بأن الإصلاح الزراعي كان سيُحدث انخفاضاً بالإنتاج؟ ربما كانوا يؤمنون بذلك! من المنطقي أن يؤمن كل إنسان بما أعدّ عقله للإيمان به. ربما كانوا يتخيّلون أنه بدون الشركات الأمريكية الكبرى، كنّا نحن الكوبيون سنعجز عن إنتاج السكّر. ربما! حتى أنهم ربما اعتقدوا بأننا نحن سندمّر البلاد. وطبعاً، لو أن الثورة دمّرت البلاد، لما اضطرت الولايات المتحدة للاعتداء علينا، لتركتنا بحالنا، ولظهرت حكومة الولايات المتحدة كحكومة نبيلة جداً وطيبة جداً، ونحن كسادة دمَرنا البلاد ولتحوّلنا إلى دليل ساطع بأنه لا يمكن القيام بثورات، لأن الثورات تدمّر البلدان. لم يكن الأمر كذلك! هناك دليل على أن الثورات لا تدمّر البلدان، وهذا الدّليل قدّمته للتو حكومة الولايات المتحدة. لقد أثبتت أموراً كثيرة، ولكنها أثبتت بين امور أخرى أن الثورات لا تدمّر البلدان وأن الحكومات الإمبريالية، نعم، هي مستعدّة لمحاولة تدمير البلدان!

لم تدمّر كوبا نفسها، فكان لا بدّ من تدميرها. كوبا كانت بحاجة لأسواقٍ جديدة لمنتجاتها، ونحن يمكننا أن نسأل بنزاهة أياً من الوفود الحاضرة هنا: أي منها لا يريد أن يبيع بلده السلع التي ينتجها، أي منها لا يريد لصادراته أن تنمو؟ نحن كنّا نريد لصادراتنا أن تنمو. هذا هو ما تريده كل البلدان، ويجب أن يكون هذا قانون عالمي.

لا يمكن إلا للمصلحة الأنانيّة أن تعارض الاهتمام الكوني بالتبادل التجاري، وهو إحدى أقدم طموحات الإنسانية وإحدى ضروراتها.

ونحن أردنا أن بيع منتجاتنا، توجهنا للبحث عن أسواق جديدة ووقّعنا اتفاقاً تجاريّاً مع الاتحاد السوفييتي نبيع بموجبه مليون طن ونشتري كميات معيّنة من السلع أو المنتجات السوفييتيّة. طبعاً! لن يقول لنا أحد بأن هذا غير صائب. هناك من ليس من شأنه أن يفعل ذلك، لأنه يزعج مصالح معيّنة. نحن في الواقع لم يكن علينا أن نطلب إذناً من وزارة الخارجية الأمريكية من أجل إبرام معاهدة تجارية مع الاتحاد السوفييتي، لأننا كنّا نعتبر أنفسنا، وما زلنا نعتبر أنفسنا، وسنظل نعتبر أنفسنا إلى الأبد بلداً حراً بالفعل.

عندما بدأت الموجودات من السكر تنخفض، لصالح اقتصادنا، جاءت ضربة المخلب الأولى: فبقرار من حكومة الولايات المتحدة، وافق الكونغرس على قانون يعطي الرئيس أو السلطة التنفيذية صلاحية خفض الواردات من السكّر الكوبي إلى الحدّ الذي يريانه مناسباً. بهذه الطريقة تم شهر السلاح الاقتصادي ضد ثورتنا. تبرير هذا الموقف كان إعلاميّون قد تولّوا التحضير له؛ فالحملة كانوا قد بدأوا بشنها منذ زمن طويل، لأنه وكما تعرفون تماماً بأن الاحتكار والإعلام هما أمران محدّدان تماماً. تم شهر السلاح الاقتصادي، خفض حصة السكر الكوبية في السوق حوالي مليون طن –وهو سكّر كان منتجاً خصيصاً للسوق الأمريكي- بهدف حرمان بلدنا من الموارد اللازمة لنموّه، من أجل الحُكم على بلدنا بالعجز، من أجل تحقيق نتائج سياسية. مثل هذا الإجراء كان محظوراً في القانون الدولي الإقليمي. فالعدوان الاقتصادي، وكما يعرف جميع مندوبي أمريكا اللاتينية هنا، مدان صراحة في القانون الدولي الإقليمي. لكن حكومة الولايات المتحدة تنتهك هذا القانون، تشهر السلاح الاقتصادين تنتزع من حصة صادراتنا من السكر إلى السوق الأمريكي نحو مليون طن. هم بوسعهم فعل ذلك.

ماذا تبقى من دفاع لدى كوبا أمام هذا الواقع؟ اللجوء إلى منظمة الأمم المتحدة، اللجوء إلى منظمة الأمم المتحدة لشجب الاعتداءات السياسية والاعتداءات الاقتصاديّة، لشجب الانتهاكات الجوية على يد طائرات قرصنة، ولشجب العدوان الاقتصادي، عدا عن تدخل حكومة الولايات المتحدة المتواصل في سياسة بلدنا، والحملات التخريبية التي تقوم بها ضد الحكومة الثورية الكوبية.

لجأنا إلى منظمة الأمم المتحدة. لمنظمة الأمم المتحدة صلاحيات لمعرفة هذه المسائل؛ ومنظمة الأمم المتحدة، من حيث هرميّة المنظمات الدوليّة، هي الهيئة العليا، بل وأنها تتفوّق على منظمة الدول الأمريكية. بالإضافة لذلك، كان يهمّنا أن تكون المشكلة حاضرة على طاولة منظمة الأمم المتحدة، لأننا ندرك الوضع الذي يعيشه اقتصاد شعوب أمريكا اللاتينية، وضع التبعيّة للولايات المتحدة الذي يعيشه اقتصاد بلدان أمريكا اللاتينية. منظمة الأمم المتحدة اطلعت على القضية، وطلبت من منظمة الدول الأمريكية إجراء تحقيق؛ منظمة الدول الأمريكية اجتمعت. ما الذي كان متوقّعاً؟ أن تحمي منظمة الدول الأمريكية البلد المُعتدى عليه؛ أن تكون منظمة الدول الأمريكية قادرة على إدانة الاعتداءات السياسية على كوبا، وعلى الأخص أن تتمكن منظمة الدول الأمريكية من إدانة الاعتداءات الاقتصاديّة على بلدنا. هذا ما كان متوقّعاً. فنحن في نهاية المطاف لم نكن أكثر من بلد صغير من الأسرة الأمريكية اللاتينية؛ ونحن في نهاية المطاف لسنا إلا بلداً آخر يتعرض للعدوان؛ لا هو الأول ولا هو الأخير، حيث أن المكسيك تعرضت للعدوان أكثر من مرة، وللعدوان العسكري. في إحدى الحروب انتزعوا منهم جزءاً كبيراً من أراضيهم، وفي تلك المناسبة عرف أبناء المكسيك الأبطال كيف يهجمون على "قصر شابولتيبيك"، ملفوفين بعلم المكسيك، قبل أن يستسلموا، هؤلاء هم الأطفال أبطال المكسيك! (تصفيق)

ولم يكن ذلك العدوان الوحيد، لم تكن المرة الوحيدة التي اجتاحت فيها قوات المشاة الأمريكية الأراضي المكسيكيّة. نيكاراغوا تعرضت للتدخل، وعلى مدار سبع سنوات قاوم أوغوستو سيسار ساندينو ببطولة. كوبا تعرضت للتدخل أكثر من مرة، وكذلك هايتي، وسانتو دومينغو. غواتيمالا تعرضت للتدخل. من الذي يستطيع هنا أن ينفي بنزاهة تدخل الـ "يونايتد فروت كمباني" ووزارة الخارجية الأمريكية في الإطاحة بالحكومة الشرعية في غواتيمالا؟ أنا أدرك أن يكون هناك من يفهمون واجبهم الرسمي بالتكتّم على هذه المسألة، بل وأن يكونوا مستعدّين للمجيء إلى هنا من أجل نفي ذلك، ولكنهم في قرارة أنفسهم يعرفون، بكل بساطة، اننا نقول الحقيقة.

لم تكن كوبا أول بلد يتعرّض للعدوان؛ ولم تكن كوبا أول بلد يواجه خطر التعرض للعدوان. في هذا النصف من العالم، الكلّ يعرف بأن حكومة الولايات المتحدة قد فرضت قانونها دائماً: قانون القويّ؛ قانون القوي هذا، الذي تعكف بموجبه على تدمير الهوية البورتوريكية وأبقت على هيمنتها هناك على الجزيرة الشقيقةّ؛ هذا القانون الذي استولت بموجبه على قناة بنما وتواصل سيطرتها عليه.

لم يكن ذلك بأمر جديد. كان من الواجب الدفاع عن وطننا، ولكن لم يتم الدفاع عنه. لماذا؟ ما يتوجب فعله هنا هو الذهاب إلى جوهر القضية وليس إلى أشكالها. إذا حكمنا من حيث النصوص، فنحن موضع ضمانة؛ وإذا حكمنا من حيث الواقع، نجد أننا لسنا موضع ضمانة على الإطلاق، لأن الواقع يفرض نفسه فوق أي اعتبار للأحكام المدرجة في القوانين الدولية؛ وهذا الواقع هو أن بلد صغير يتعرض لعدوان حكومة جبارة لم يحظ بالدفاع، لم يتم الدفاع عنه.

خلافاً لذلك، ما الذي خرج من كوستاريكا؟ ما خرج من كوستاريكا هو معجزة بالإنتاج العبقري! لم يتم في كوستاريكا إدانة الولايات المتحدة أو حكومة الولايات المتحدة... اسمحوا لي أن أتفادى الخلط في شعورنا تجاه شعب الولايات المتحدة. لم تتم إدانة حكومة الولايات المتحدة بسبب الستين طلعة جوية لطائرات قرصنة، ولم تتم إدانتها بسبب العدوان الاقتصادي وغيرها كثير من الاعتداءات. لا. أدانوا الاتحاد السوفييتي. يا له من أمر في منتهى الغرابة! نحن لم نذهب ضحية أي عدوان من جانب الاتحاد السوفييتي، ولم تكن أي طائرة سوفييتية قد حلّقت فوق أراضينا، ومع ذلك فقد تم في كوستاريكا إدانة الاتحاد السوفييتي بسبب تدخّله. كان الاتحاد السوفييتي قد اكتفى بالقول أنه في حال شن عدوان عسكري على بلدنا، فإن المدفعيّات السوفييتية مستعدة لدعم البلد المُعتدى عليه، وذلك في تعبير مجازي.

منذ متى أصبح الدعم لبلد صغيرٍ مشروط بتعرض هذا لعدوان قوة عظمى تدخلاً؟ ففي القانون هناك ما يُسمّى الشروط المستحيلة: إذا ما رأى بلد بأنه عاجز عن ارتكاب جريمة معيّنة، فإنه يقول: "لا يوجد أي إمكانية لأن يدعم الاتحاد السوفييتي كوبا، لأنه لا وجود لاحتمال اعتدائنا على بلد صغير". لكن هذا المبدأ لا يُطبَّق. يطبّق المبدأ القائل بضرورة إدانة تدخل الاتحاد السوفييتي.

عن أعمال قصف كوبا؟ لا شيء (تصفيق). عن الاعتداءات على كوبا؟ لا شيء.

طبعاً، هناك أمر يجب أن نتذكّره، ولا بد أن يبعث القلق عندنا بطريقة أو بأخرى. كلنا نحن، ولا مفرّ منه لأحد من المتواجدين هنا، وهو أننا نتحوّل اليوم إلى صنّاع ومشاركين في لحظة حاسمة في تاريخ البشريّة. يبدو أحياناً أن الإدانة لا تصل، أي أن نقد وشجب أفعالنا، يبدو أننا لا نتنبّه لها، ويحدث هذا على الأخصّ عندما ننسى بأنه وكما حظينا نحن بامتياز أن نكون صنّاع هذه اللحظة الحاسمة من التاريخ، فإن التاريخ يوماً ما سيحكم علينا من حيث أفعالنا. وأمام تجريد وطننا من دفاعه في اجتماع كوستاريكا... ولهذا نحن نبتسم، لأن التاريخ سيحكم على هذا الفعل.

وأقول ذلك بدون مرارة: من الصعب أن تدين البشر. فالبشر في كثير من الأحيان هم دمى تحركها الظروف، ونحن الذين نعرف ما كان عليه تاريخ بلدنا، بالإضافة لكوننا شهوداً استثنائيين على ما يعيشه بلدنا اليوم، ندرك كم هي مريعة التبعية الاقتصادية للبلدان وحياتها عامة للقوة الاقتصادية الخارجية. يكفي أن نذكر ببساطة كيف أصبح بلدنا أعزلاً، وأكثر من ذلك: الاهتمام بألا يتم جلب الموضوع إلى أروقة منظمة الأمم المتحدة، ربما لأنهم يعتبرون بأن من الأسهل تحقيق أغلبية ميكانيكية في منظمة الدول الأمريكية. في نهاية المطاف، ليس من السهل جداً تفسير هذا الخوف، عندما رأينا أن الأغلبية الميكانيكية قد نجحت هنا أيضاً، في منظمة الأمم المتحدة، في كثير من الأحيان.

وبكل وفاء لهذه الهيئة، من واجبي أن أقول هنا أنه لهذا السبب فإن الشعوب، شعبنا، نعم، شعبنا، هذا الشعب، موجود هناك في وطننا، ولكنه شعب تعلّم الكثير، ونقول بفخر أنه شعب على مستوى الدور الذي يلعبه في هذه اللحظة، وعلى مستوى الكفاح الذي يخوضه...، شعبنا الذي تعلّم في مدرسة آخر المستجدات الدولية يعرف أنه في اللحظة الأخيرة، عندما حُرم من حقه، وانهالت عليه قوى العدوان، يبقى أمامه السلاح الأسمى والسلاح البطولي، وهو سلاح المقاومة، عندما لا يكون حقه محفوظاً لا في منظمة الدول الأمريكية ولا في منظمة الأمم المتحدة (تصفيق مطوّل).

ولهذا نحن البلدان الصغيرة لا نشعر ببالغ الثقة بأن يكون حقنا محفوظاً؛ ولهذا، فإن البلدان الصغيرة، عندما نريد أن نكون أحراراً، نعرف بأننا ندفع ثمن ذلك من حسابنا وأننا نخاطر، ولأنه بالفعل عندما تكون الشعوب موحّدة، عندما تدافع عن حق مشروع، يمكنها أن تثق بطاقاتها الذاتيّة، لأن الأمر لا يتعلّق طبعاً بمجموعة من الرجال تحكم البلاد، كما يريدون أن يصوّروننا؛ إنما يتعلّق الأمر بشعبٍ برمّته متّحد بصلابة وبوعي ثوري كبير، يدافع عن حقوقه. ويجب أن يدرك أعداء الثورة وكوبا ذلك، لأنهم إذا ما تجاهلوه فإنهم يرتكبون خطأ مؤسفاً.

هذه هي الظروف التي أحاطت العملية الثورية الكوبية؛ كيف وجدنا البلاد، ولماذا نشأت الصعوبات. غير أن الثورة الكوبية تقوم بتغيير ما كان عليه في الأمس بلداً بلا أمل، بلداً بائساً، بلد أميين في جزء منه، وتقوم بتحويله إلى ما سيكون عليه عاجلاً واحداً من البلدان الأكثر تقدماً وأكثر نمواً في هذه القارة.

خلال عشرين شهراً فقط، فتحت الحكومة الثوريّة عشرة آلاف مدرسة، أي أنه خلال هذه الفترة بالغة القصَر، تضاعفَ عدد المدارس الريفيّة التي تم فتحها على مدار خمسين سنة. وكوبا اليوم هي أول بلد في القارة الأمريكية يلبّى كل احتياجاته المدرسيّة، والتي يوجد فيها معلّم حتى في آخر زاوية من الجبال.

وخلال هذه الفترة القصيرة من الزمن، شيّدت الحكومة الثوريّة 25 ألف مسكن في المناطق الريفيّة والحضريّة؛ هناك خمسون بلدة جديدة تنشأ اليوم في بلدنا؛ أهم الحصون العسكرية تحتضن اليوم عشرات الآلاف من الطلاب، وفي السنة القادمة يعتزم شعبنا خوض معركته الكبرى ضد الأميَّة، ويضع نصب عينيه تحقيق الهدف الكبير المتمثل في تعليم القراءة والكتابة حتّى آخر أميّ العام القادم، ولهذه الغاية تستعدّ هيئات من المعلّمين والطلاب والعمّال، أي كل أبناء الشعب، لحملة مكثّفة وستكون كوبا أول بلد في القارة الأمريكية سيستطيع أن يقول بعد أشهر قليلة أن ليس فيه أميٌّ واحد.

يتلقى شعبنا اليوم المساعدة من مئات الأطباء الذين تم إرسالهم إلى الأرياف من أجل مكافحة الأمراض، مكافحة الطفيليّات، وتحسين الظروف الصحية للبلاد.

في جانب آخر، وهو جانب حماية الموارد الطبيعية، نستطيع أن نؤكد هنا أيضاً أنه في سنة واحدة، وفي إطار أوسع خطة لحماية الموارد الطبيعيَّة يتم تطبيقها حالياً في هذه القارة، بما فيها الولايات المتحدة وكندا، زرعت نحو خمسين مليون شجرة منتجة للأخشاب.

الشبان الذين كانوا بلا عمل، وبلا مدارس، نظمتهم الحكومة الثورية وهم يقومون اليوم بتنفيذ أشغال مفيدة للبلاد، وذلك في نفس الوقت الذي يجري إعدادهم فيه للعمل الإنتاجي.

الإنتاج الزراعي في بلدنا سجّل شيئاً ربما يكون فريداً من نوعه، وهو ارتفاع الإنتاج منذ اللحظة الأولى تقريباً. لقد تم منذ البداية تحقيق زيادة بالإنتاج الزراعي. لماذا؟ لأن الحكومة الثوريّة، قبل كل شيء، حوّلت أكثر من 100 ألف من صغار الفلاحين إلى مالكين لأراضيهم، بعدما كانوا يدفعون بدلاً لاستئجارها، وفي الوقت نفسه، حافظت على الإنتاج واسع النطاق، بواسطة تعاونيّات زراعيّة للإنتاج، أي أن إنتاج المؤسسات الكبرى قد حافظ على وجوده من خلال تعاونيّات، وبفضل ذلك تم التمكّن من تطبيق تقنيّات أحدث على إنتاجنا الزراعي وسُجّل منذ اللحظة الأولى ارتفاع بالإنتاج.

وكل هذا الإنجاز المفيد للمجتمع، من معلّمين ومساكن ومستشفيات قمنا بتنفيذه من دون أن نضحّي بالموارد اللازمة للتنمية، إذ أن الحكومة الثورية تقوم في هذه اللحظة بتنفيذ برنامج تصنيع للبلاد، يجري حالياً تركيب معامله الأولى في كوبا.

لقد استخدمنا ونستخدم موارد بلدنا بشكل عقلاني. ففي السابق، على سبيل المثال، كانت كوبا تستورد من السيارات ما قيمته 35 مليون دولار، ومن الجرارات ما قيمته خمسة ملايين. بلدُ ذو اقتصاد زراعي كان يستورد من السيارات سبعة أضعاف الجرارات. قمنا نحن بقلب القاعدة، ونحن نستورد الآن من الجرارات سبعة أضاف ما نستورده من السيارات.

تمت استعادة نحو 500 مليون دولار من السياسيين الذين كانوا قد جمعوا ثروات خلال حكم الدكتاتوريّة. نحو 500 مليون دولار، على شكل ممتلكات أو نقداً، هو القيمة الإجمالية لما تمت استعادته من السياسيين الفاسدين الذين قاموا بنهب بلدنا على مدار سبع سنوات. الاستثمار الصحيح لهذه السلع، لهذه الثروات، لهذه الموارد، هو ما يمكّن للحكومة الثوريّة من بناء مساكن وبناء مدارس وإرسال المعلّمين حتى إلى أكثر الأماكن عزلة من البلاد وتوفير الرعاية الطبية لهم، أي تنفيذ برنامج للتنمية الاجتماعيّة، وذلك في ذات الوقت الذي تطوّر فيه خطة تصنيعيّة وارتفاعاً بإنتاجنا الزراعي.

وفي هذه اللحظة بالذات، وكما تعرفون، تأتي حكومة الولايات المتحدة لتقترح في اجتماع بوغوتا خطة. لكن، هل هي خطة للتنمية الاقتصادية؟ لا. هي اقترحت خطة للتنمية الاجتماعيّة. ماذا يُفهم من ذلك؟ فنحن لدينا أيضاً خطة لبناء منازل، وخطة لفتح مدارس، وخطة لشق طرق. ولكن، هل هذا يا تُرى يحلّ المشكلَة؟ كيف يمكن إيجاد حلول للمشكلات الاجتماعية من دون خطة للتنمية الاقتصادية؟ هَل يُراد الهزء بشعوب أمريكا اللاتينية؟ مما ستعيش العائلات التي ستقيم في هذه المنازل، هذا إذا أقيمت المنازل؟ بأي حذاء، بأي لباس ومن أي غذاء سيعتاش الأطفال الذين سيرتادون إلى هذه المدارس؟ أليس معروفاً يا ترى بأنه عندما لا تمتلك العائلات لا ملابس ولا أحذية لأطفالها لا ترسلهم إلى المدرسة؟ بأية موارد سوف يدفعون أجور المعلّمين؟ بأية موارد سوف يدفعون أجور الأطباء؟ بأية موارد سوف يدفعون ثمن الأدوية؟ هل يريدون طريقة جيّدة لادّخار الأدوية؟ فليحسّنوا غذاء الشعب، ما يسجّله من تحسّن في الغذاء، يتم ادّخاره بالمستشفيات.

إضافةً، أمام الواقع المذهل للتخلّف، تأتينا حكومة الولايات المتحدة الآن بخطة للتنمية الاجتماعيّة. طبعاً، هو إنجاز أن نجدها مهتمة بمشكلات أمريكا اللاتينية. فهي حتى الآن لم تكن قد أبدت أي نوع من القلق. يا لها من صدفة أن تهتم الآن بهذه المشكلات! ربما يقولون أن أي تشابه مع حقيقة أن قلقهم هذا قد جاء بعد الثورة الكوبية إنما هو بمحض الصدفة.

لم تكن الشركات الاحتكارية قد أبدت حتى الآن أي قلق غير استغلال البلدان النامية. ولكن جاءت الثورة الكوبية وجاءت معها مباعث قلق الشركات الاحتكارية، وبينما يجري الاعتداء علينا نحن اقتصادياً وتجري محاولة سحقنا، يسعون باليد الأخرى لعرض الصدقة على شعوب أمريكا اللاتينية. ليس الموارد اللازمة للتنمية الاقتصادية، وهو ما تريده أمريكا اللاتينية، وإنما يعرضون عليها موارد للتنمية الاجتماعية؛ لإقامة منازل يعيش فيها أناس عاطلون عن العمل، وإقامة مدارس لن يذهب إليها الأطفال، ومستشفيات لا يحتاج إليها الأمر كثيراً لو كانت هناك تغذية أفضل بقليل في أمريكا اللاتينية.

في نهاية المطاف، ومع أن بعض الرفاق من أمريكا اللاتينية يعتقدون أن من واجبهم أن يكونوا متكتّمين هنا، أهلاً وسهلاً بثورة كالثورة الكوبية، التي بعثت الاهتمام عند الشركات الاحتكاريّة في أن تعيد ولو جزء صغير مما قامت باستخراجه حتى الآن من الموارد الطبيعيّة ومن عرق شعوب أمريكا اللاتينية! (تصفيق).

مع أن هذه المساعدة لا تشملنا، فإن ذلك لا يقلقنا. نحن لا نأخذ على خاطرنا من هذه الأمور؛ فمشكلات المدارس والمساكن هذه، وكل ذلك، نعكف منذ زمن طويل على حلّها. ولكن نعتقد أنه ربّما يراود بعضهم الشك بأننا نقوم هنا بالدعاية؛ لأن السيد رئيس الولايات المتحدة قال بأن البعض سيأتون إلى هذا المنبر من أجل القيام بالدعاية. وطبعاً، أي رفيق من الأمم المتحدة مدعو بصورة دائمة لزيارة كوبا. فهناك نحن لا نغلق الأبواب أمام أحد؛ ويستطيع أي من الرفاق في هذه الجمعية أن يزور كوبا وأن يرى بأم عينيه.... أنتم تعرفون ذلك الفصل من الإنجيل الذي يتحدث عن القديس توما، أن عليه أن يرى لكي يصدّق. أظن أنه القديس توما.

في نهاية المطاف، نحن بوسعنا أن ندعو أياً كان، سواء كان صحافياً أو عضواً في وفد، إلى زيارة كوبا، ليرى ما يستطيع بلد أن يفعله بموارده الذاتيّة عندما يستثمرها بنزاهة وعقلانيّة.

ولكن نحن لا نقوم فقط بحل مشكلاتنا بالمسكن والمدرسة، وإنما مشكلاتنا التنموية، لأنه بدون حل مشكلة التنمية، لن توجد أبداً حلول للمشكلات الاجتماعية.

ولكن، ماذا يحدث؟ لماذا لا تريد حكومة الولايات المتحدة الحديث عن التنمية؟ الأمر بسيط جداً، لأن حكومة الولايات المتحدة لا تريد الدخول في نزاع مع الشركات الاحتكاريّة، والشركات الاحتكاريّة تشترط موارد طبيعيّة وأسواقاً لاستثمار رؤوس أموالها. وهنا يكمن التناقض الأكبر، ولهذا هي لا تتجه إلى الحلّ الحقيقي للمشكلة، ولهذه لا تتجه إلى البرمجة باستثمارات عامة لتنمية البلدان المتخلفة.

ومن المفيد قول ذلك هنا بكل وضوح، لأنه في نهاية المطاف، نحن البلدان النامية نشكّل أغلبية –لعلّ أحدهم يجهل ذلك-، وفي نهاية الأمر نحن شهود على ما يحدث في البلدان النامية.

لكن، لا يتم التوجّه إلى الحل الحقيقي للمشكلة، ويجري الحديث هنا دائماً عن مشاركة رأسمال القطاع الخاص. طبعاً، المقصود بذلك سوق لاستثمار الرأسمال الزائد. استثمارات مثل تلك التي تُستعاد في خمس سنوات.

لا تستطيع حكومة الولايات المتحدة أن تتحدث عن خطة استثمار عام، لأن ذلك يُبعدها عن سبب وجود حكومة الولايات المتحدة، وهو الشركات الاحتكارية الأمريكية.

هذا هو، ومن غير لفّ ولا دوران، السبب الذي يمنع من الترويج لبرنامج حقيقي للتنمية الاقتصادية لحماية أراضينا في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا من استثمارات الرأسمال الزائد.

إلى هنا تكلّمنا عن مشكلات بلدنا. لماذا لم تُحلّ هذه المشكلات حتى الآن؟ هل لأننا لا نريد أن نحلّها يا ترى؟ لا. فلطالما كانت حكومة كوبا مستعدة لبحث مشكلاتها مع حكومة الولايات المتحدة، لكن حكومة الولايات المتحدة لم ترغب ببحث مشكلاتها مع كوبا، ولا بدّ أن لها أسبابها لعدم الرغبة في بحث المشكلات مع كوبا.

لديّ هنا المذكرة التي بعثت بها الحكومة الثورية الكوبية إلى حكومة الولايات المتحدة في السابع والعشرين من كانون الثاني/يناير 1960، وتقول:

"الاختلافات التي يمكن وجودها في وجهات النظر بين كلا الحكومتين بصفتها موضع مفاوضات دبلوماسيّة، يمكن حلّهاً فعليّاً عبر هذه المفاوضات. حكومة كوبا على أتمّ الاستعداد لكي تناقش هذه الاختلافات بدون تحفّظ وبإسهاب مطلق، وتعلن صراحة أنها ترى بأنه لا يوجد عوائق من أي نوع كان تمنع إجراء هذه المفاوضات من خلال أي من الوسائل والأدوات الملائمة عادة لتحقيق هذه الغاية. على أساس الاحترام المتبادَل والمنفعة المشتركة مع حكومة وشعب الولايات المتحدة، تودّ حكومة كوبا صون وزيادة علاقاتها الدبلوماسيّة والاقتصاديّة، وترى أنه على هذا الأساس تصبح غير قابلة للتصدّع الصداقة التقليدية القائمة بين الشعبين الكوبي والأمريكي".

22 شباط/فبراير من هذه السنة نفسها:

"إن الحكومة الثورية الكوبية، وانسجاماً مع غايتها في استئناف المفاوضات التي بدأت حول القضايا العالقة بين كوبا وبين حكومة الولايات المتحدة الأمريكية عبر القنوات الدبلوماسيّة، قد قرّرت تشكيل لجنة ذات صلاحيات لذلك، لكي تبدأ مساعيها بواشنطن في الموعد الذي يتفق عليه الطرفان.

غير أن الحكومة الثورية الكوبية تودّ أن توضح بأن استئناف هذه المفاوضات ومسيرتها اللاحقة يجب أن يكونان مشروطين بعدم اتخاذ كونغرس أو حكومة بلدكم أي إجراء ذي طابع أحادي الجانب يحكم مسبقاً على نتائج المفاوضات المذكورة آنفاً أو يعود بالأضرار على اقتصاد كوبا أو شعبها. يبدو لازماً الإضافة بأن مشاركة حكومة سيادتكم لوجهة النظر هذه من شأنها أن تساعد ليس فقط في تحسّن العلاقات بين بلدينا، وإنما أن تجدد التأكيد على روح الصداقة الأخوية التي ربطت وتربط شعبينا. ومن شانها كذلك أن تسمح لكلا الحكومتين التمكّن من بحث المسائل التي أثّرت سلباً على العلاقات التقليدية بين كوبا والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في مناخ هادئ وبأوسع الرؤى".

ماذا كان ردّ حكومة الولايات المتحدة؟

"لا تستطيع حكومة الولايات المتحدة الموافقة على شروط التفاوض الواردة في مذكّرة سعادتكم، من ناحية عدم اتخاذ إجراءات ذات طابع أحادي الجانب من قبل حكومة الولايات المتحدة يمكنها أن تلحق الأذى باقتصاد كوبا وشعبها، سواء كان من ناحية سلطتها التشريعية أو التنفيذية. وكما قال الرئيس إيزنهاور في السادس والعشرين من كانون الثاني/يناير، من واجب حكومة الولايات المتحدة أن تظل طليقة في ممارسة سيادتها من أجل اتخاذ الخطوات التي تراها ضروريّة، وذلك إدراكاً منها لواجباتها الدوليّة دفاعاً عن الحقوق المشروعة لشعبها أو مصالحه".

أي أمل يحدو شعب كوبا في حل هذه المشكلات؟ الوقائع التي لاحظناها جميعنا هنا تمنع حلّ هذه المشكلات ومن المفيد أن تأخذ الأمم المتحدة ذلك تماماً بعين الاعتبار، لأن حكومة كوبا وشعبها لديهما ما يبرّر قلقهما من المنحى العدواني الذي تأخذه سياسة حكومة الولايات المتحدة بالنسبة لكوبا ومن المفيد أن نكون على اطلاع ومتابعة.

أولاً، تعتبر حكومة الولايات المتحدة أن من حقها التحريض على التخريب في بلدنا؛ وتقوم حكومة الولايات المتحدة بالترويج لتشكيل حركات تخريبية ضد الحكومة الثورية الكوبية، ونحن ندين ذلك هنا في هذه الجمعية العامة ونودّ أن نكشف النقاب بالتحديد عن أنه، على سبيل المثال، في جزيرةٍ كاريبية، في أراضي تابعة لهندوراس تُعرف باسم "جزيرة سيسني"، استولت الولايات المتحدة بالقوة العسكرية على هذه الجزيرة، ويتواجد لها في قوات مشاة بحريّة أمريكية، رغم أنها أراضي تابعة لهندوراس، وهناك، وفي انتهاك للاتفاقات الدولية للبث الإذاعي، أقامت محطة قويّة للبث ووضعتها بأيدي مجرمي حرب ومن المجموعات التخريبية التي ترعاها في ذلك البلد؛ كما أنه تجري هناك تدريبات لخدمة الترويج للتخريب وتشجيع الإنزالات البحرية العسكرية في جزيرتنا.

يكون مفيداً أن يطالب ممثل هندوراس لدى الجمعية العامة هنا بحق هندوراس بقطعة الأرض هذه، باعتبارها مسألة من اختصاصه هو. ما يخصّنا نحن هو استخدام قطعة من أرض بلدٍ شقيق قد انتزعتها حكومة الولايات المتحدة عن طريق القرصنة من هذا البلد لتتخذ منها قاعدة للتخريب والاعتداء على بلدنا، وأطلب هنا توثيق هذه الإدانة التي نرفعها باسم الحكومة والشعب الكوبيين.

هل تعتبر حكومة الولايات المتحدة أن من حقها الترويج للتخريب في بلدنا، انتهاكاً منها لكل المعاهدات الدولية، وانتهاكاً منها للمجال الإذاعي الجوي؟ هل يعني ذلك يا ترى أن من حق الحكومة الثورية الكوبية أيضاً الترويج للتخريب في الولايات المتحدة؟ هل تعتبر حكومة الولايات المتحدة أن من حقّها انتهاك المجال الإذاعي الجوي، الذي يُنزل أذى كبيراً بمحطاتنا الإذاعيّة؟ هل يعني ذلك يا ترى أن من حق الحكومة الكوبية أن تنتهك المجال الإذاعي؟

ما هو حق حكومة الولايات المتحدة علينا أو على جزيرتنا، ما يسمح لباقي الشعوب المطالبة بذات الاحترام؟ فلتعاد جزيرة سيسني لهندوراس، لأنه لم يسبق أن كان لها سلطة قانونية أبداً على هذه الجزيرة (تصفيق).

لكن هناك ظروف تثير من الجزع عند شعبنا أكثر من هذا. من المعروف أنه بموجب "تعديل بلات"، الذي تم فرضه بالقوة على بلدنا أعطت حكومة الولايات المتحدة لنفسها الحقّ بإقامة قواعد بحرية في أراضينا. حق تم فرضه بالقوة والإبقاء عليه بالقوة.

إن وجود أي قاعدة بحريّة في أي بلد كان هو دافع لقلقٍ في محلّه. أولاً، القلق من امتلاك بلد يتّبع سياسة دولية عدوانية ويميل للحروب قاعدة هناك في قلب جزيرتنا، مما يعرّض جزيرتنا لمخاطر أي نزاع دولي، أي نزاع نووي، من دون أن تكون لنا علاقة البتة بالمشكلة، فنحن ليس لنا أي علاقة على الإطلاق بمشكلات حكومة الولايات المتحدة وبالأزمات التي تتسبب بها حكومة الولايات المتحدة. ومع ذلك، هناك قاعدة في قلب جزيرتنا تنطوي بالنسبة لنا على خطر في حال نشوب أي نزاع عسكري.

لكن، هل هو هذا الخطر وحده؟ لا! فهناك خطر آخر يبعث عندنا قلقاً أكبر، حيث أن صلته بنا أوثق: لقد عبّرت الحكومة الثورية الكوبية تكراراً عن قلقها من إقدام حكومة الولايات المتحدة الإمبريالية على الاتخاذ من هذه القاعدة المغروسة في أراضينا الوطنية حجةً لافتعال عدوان ذاتي يبرر الهجوم على بلدنا! أكرر: ينتاب الحكومة الثورية الكوبية شعور بقلق عميق، وتعبّر عن ذلك هنا، من إقدام حكومة الولايات المتحدة الإمبريالية على افتعال عدوان ذاتي تتخذ منه ذريعة للهجوم على بلدنا! وهذا القلق الذي يساورنا يكبر يوماً بعد يوم، باعتبار أن العدوانيّة أكبر والأعراض تثير مخاوف أكثر.

لدي هنا، على سبيل المثال، برقية من وكالة "يونايتد برس إنترناشونال" وصلت إلى بلدنا، وتقول حرفياً:

"يقول المشير هارلي بورك، قائد العمليّات البحرية الأمريكية، أنه إذا ما حاولت كوبا احتلال قاعدة غوانتانامو البحرية فإننا سنقاتل. في مقابلة أجرتها معه مجلة "U.S. News and World Report" –أرجو أن تعذروني على أي عيب في لفظ هذه المفردات-، سُئل عمّا إذا كان سلاح البحرية يشعر بالقلق إزاء الوضع السائد في كوبا في ظل نظام كاسترو. أجاب بورك: ’نعم، سلاح البحرية يشعر بالقلق، ليس على قاعدتنا في غوانتانامو، وإنما إزاء الوضع الكوبي برمّته‘. وسئل عمّا إذا كان مرد هذا القلق الموقع الاستراتيجي لكوبا في حوض الكاريبي، فأجاب: ’لا، ليس لهذا السبب تحديداً، وإنما لأن الأمر يتعلّق ببلد كان شعبه بطبيعته صديقاً للولايات المتحدة، كان معجباً بشعبنا وكنا نحن أيضاً معجبون به. ورغم ذلك جاء أحدهم مع مجموعة من الشيوعيين المهووسين العازمين على تغيير كل شيء. كاسترو علّم على كره الولايات المتحدة وفعل الكثير من أجل تدمير بلده‘. وأضاف بورك بانه ستكون هناك ردة فعل سريعة جداً حالما اتخذ كاسترو أي قرار ضد قاعدة غوانتانامو. وأضاف: ’إذا ما حاولوا الاستيلاء على هذا المكان بالقوّة، سنقاتل‘. ولدى سؤاله عمّا إذا كان تهديد خروتشوف بدعم الصواريخ السوفييتية لكوبا قد جعلته يفكّر بقراره مرتين، قال المشير: ’لا، لأنه لن يطلق صواريخه، لأنه يعلم بأنه سيتم تدميره إذا ما فعل ذلك‘".

أي أن روسيا سيتم تدميرها.

أولاً، لا بدّ من أن أُبرز كيف أن هذا السيّد يرى في ارتفاع الإنتاج الصناعي في بلدنا بنسبة 35 بالمائة، وفي توفير فرص العمل لأكثر من 200 ألف كوبي جدد، وفي الحلول التي قدّمناها للمشكلات الاجتماعيّة الكبرى في بلدنا، ما يساوي "تدمير البلاد". وعلى أساس هذه "المبادئ" يعطون لأنفسهم الحق بتوفير الشروط للعدوان.

لاحِظوا كيف أنه يجري حساباً، وهو حساب خطير بالفعل، لأن هذا السيّد يحسب افتراضياً أنه في حال شن هجوم علينا، سنكون نحن وحيدين. إنه مجرّد حساب من السيد بورك، ولكن فلنتصوّر أن السيد بورك مخطئ. ولنتصور أن السيد بورك، بكل مستواه كمشير، مخطئ (تُسمَع أصوات من الوفد السوفييتي، ومن خروتشوف نفسه وتصفيق).

إذن، المشير يلعب بشكل لامسؤول بمصير العالم. المشير بورك وكل أعضاء فريقه العسكري العدواني يعبثون بمصير العالم، وبالنسبة لمصير كل واحد منّا لا يستحق الأمر الشعور بالقلق في الواقع؛ ولكننا نفهم بأننا، وكممثلين لمختلف شعوب العالم، من واجبنا أن نقلق على مصير العالم، ومن واجبنا أن ندين كل الذين يعبثون بصورة لامسؤولة بمصير العالم! فهم لا يعبثون فقط بمصير شعبنا، إنهم يعبثون بمصير شعبهم نفسه، ويعبثون بمصير كل شعوب العالم! أم أن المشير بورك هذا يظن أننا ما زلنا نعيش في عصر الطبنجة، أم أن المشير بورك هذا لم يتنبّه بعد إلى أننا نعيش في عصر الذرّة، التي لم يتمكّن دانت أو ليونارد دا فينشي حتّى من تصوّر قدرتها التدميريّة، بكل ما بلغه خيالهما، لأنها تتفوّق على كل ما أمكن للإنسان أن يتصوّره منذ الأزل؟ لكنه يجري تقديراته، ووكالة "يونايتد برس" نشرت الخبر في العالم، والمجلة توشك على الصدور، ويبدأ بذلك شن الحملة، يبدأ خلق حالة من الهستيريا، ويبدأ نشر الخطر الوهمي لأي تحرك من قبلنا ضد القاعدة.

وليس هذا فحسب. فيوم أمس ظهر نبأ آخر وزعته وكالة "يونايتد برس إنترناشونال"، يحتوي على تصريحات أدلى بها سيناتور أمريكي، حسب ما يبدو لي يُلفظ اسمه ستيل بريدج، وحسب معلوماتي هو عضو في اللجنة العسكرية التابعة لمجلس الشيوخ الأمريكي، والذي قال: "من واجب الولايات المتحدة أن تعدّ قاعدتها البحرية الحربية في كوبا بأي ثمن"؛ وقال: "يجب أن نذهب بعيداً كلّ ما استلزم الأمر للدفاع عن المنشأة العملاقة خاصة الولايات المتحدة. لدينا هناك قوات بحرية، لدينا قوات مشاة بحريّة، وإذا ما تعرّضنا للهجوم، من شأني أن أدافع عنها، لأنني أعتقد بحق بـأنها أهم قاعدة في منطقة الكاريبي".

هذا العضو في لجنة مجلس الشيوخ التابعة للقوات المسلحة، بريدج، لم يستبعد كلياً استخدام الأسلحة الذريَّة في حال تعرّض القاعدة للهجوم.

ماذا يعني ذلك؟ يعني أنه لا يجري إحداث هستيريا فحسب، وأنه لا يجري تهيئة الأجواء بانتظام، وإنما أنه حتى يتم تهديدنا باستخدام الأسلحة النووية. والواقع أنه، بين أمور كثيرة تخطر على بالنا، واحدة منها هي سؤال السيد بريدج إن لم يكن يخجل من تهديد بلد صغير ككوبا باستخدام الأسلحة الذريّة (تصفيق مطوَّل).

من ناحيتنا، من واجبنا أن نقول له، وبكل احترام، أن مشكلات العالم لا تُحلّ بالتهديد وزرع الخوف؛ وأن شعبنا البسيط والصغير، ماذا نقول له! .. نحن هناك، شاء أم أبى، والثورة ستواصل طريقها إلى الأمام، شاء أم أبى: وأنه، فوق ذلك، شعبنا البسيط والصغير يجب أن يرضى بما كُتب له، وألا يشعر بأي خوف من تهديداته باستخدام الأسلحة النوويَّة.

ماذا يعني ذلك؟ أن هناك بلدان كثيرة لديها قواعد أمريكية، ولكنها على الأقل قائمة فيها ليس رغماً عن حكوماتها التي أعطتهم هذه الامتيازات، على الأقل حسب معلوماتنا نحن. حالتنا نحن هي الحالة الأكثر مأساوية؛ حالتنا نحن هي حالة قاعدة قائمة في أراضينا الجزرية رغماً عن كوبا، رغماً عن الحكومة الثوريّة الكوبية. أي أنها في أيدي من يعلنون عداءهم لوطننا، عداءهم لثورتنا، عداءهم لشعبنا. في تاريخ القواعد القائمة اليوم في كل العالم، حالة كوبا هي الأكثر مأساوية: قاعدة قائمة بالقوّة، في أراضينا التي لا لُبس فيها، وهي على مسافة بعيدة عن سواحل الولايات المتحدة، رغماً عن إرادة كوبا، رغماً عن إرادة الشعب، يتم فرضها بالقوّة، وكتهديد ومصدر قلق لشعبنا.

لهذا من واجبنا أن نعلن هنا، أولاً، أن هذا الكلام الفارغ عن هجمات هدفها خلق حالة من الهستيريا وتهيئة الظروف لشن اعتداءات على بلدنا، حيث أننا لم نتكلّم أبداً، لم نقل كلمة واحدة أبداً تنطوي على فكرة شن هجوم من أي نوع كان على قاعدة غوانتانامو البحرية. فنحن أول المهتمّين بعدم إعطاء الذرائع للإمبرياليّة لكي تعتدي علينا، ونحن نعلن ذلك هنا بشكل حاسم؛ ولكننا نعلن أيضاً أنه منذ اللحظة التي تحوّلت فيها هذه القاعدة إلى تهديد لأمن وطمأنينة شعبنا، وتهديد لشعبنا، تعكف الحكومة الثورية على النظر ببالغ الجدية في أن تطلب، وضمن معايير القانون الدولي، سحب القوات البحرية والعسكرية التابعة لحكومة الولايات المتحدة من هذا الجزء من الأراضي الوطنية (تصفيق مطوّل). ولن يبقى لدى حكومة الولايات المتحدة الإمبريالية ملاذاً آخر غير سحب قواتها، لأنه، كيف سيكون بإمكانها أن تبرر أمام العالم حقها بإقامة قاعدة ذريّة أو قاعدة تنطوي على خطر بالنسبة لشعبنا في جزء من أراضينا الوطنيَّة، في جزيرة لا لُبس في حدودها، وهي البقعة من العالم التي يعيش فيها الشعب الكوبي؟ كيف سيمكنها أن تبرر امام العالم أي حق لها بالحفاظ على سيادة على جزء من أراضينا؟ كيف سيمكنها الظهور أمام العالم لتبرير مثل هذا العسف؟ وبما أنها لن تستطيع تبرير هذا الحق أمام العالم عندما تطلب حكومتنا ذلك في إطار معايير القانون الدولي، فإنه سيتعيَّن على حكومة الولايات المتحدة أن تمتثل لهذا القانون.

ولكن لا بدّ وأن تكون هذه الجمعية على علم كامل بمشكلات كوبا، لأن علينا نحن أن نكون حذرين أمام الخداع وأمام التضليل. علينا نحن أن نشرح بوضوح كامل كل هذه المشكلات، لأن ذلك ينطوي على أمن ومصير بلدنا. ولذلك نحن نطلب توثيق هذه الكلمات بوضوح، لا سيّما إن أخذنا بعين الاعتبار أنه لا يوجد علامات على تحسّن وجهة النظر سياسيّي هذا البلد أو تفسيرهم الخاطئ لمشكلات كوبا.

لديّ هنا، على سبيل المثال، تصريحات للسيد كندي تكفي لإثارة الدهشة عند أي كان. يقول عن كوبا:

"من واجبنا أن نستخدم قوة منظمة الدول الأمريكية كلها لمنع كاسترو من التدخل في شؤون حكومات أمريكية لاتينية أخرى، وإعادة الحرية لكوبا" سوف يعيدون الحرية لكوبا!

"من واجبنا أن نؤكد نيّتنا عدم السماح للاتحاد السوفييتي بتحويل كوبا إلى قاعدة له في الكاريبي، وتطبيق ’عقيدة مونروي‘". في أوج منتصف أو أكثر من منتصف القرن العشرين، هذا السيد المرشّح يتحدث عن "عقيدة مونروي".

"من واجبنا إفهام رئيس الوزراء كاسترو اننا نعتزم الدفاع عن حقنا بقاعدة غوانتانامو البحرية". إنه الثالث، ثالث المتحدثين عن هذه المشكلة! "وتعريف الشعب الكوبي بأننا نؤازر تطلعاته الاقتصادية المشروعة...". وكيف كانوا يؤازروننا من قبل؟ ".. أننا نعرف حبّه للحريّة ولن نكلّ أبداً حتى تعود الحرية إلى كوبا...". يا لها من ديمقراطيّة؟ هل هي ديمقراطية الـ "made" على يد الاحتكارات الإمبريالية التابعة لحكومة الولايات المتحدة؟

"القوى التي تناضل من أجل الحرية في المنفى –اصغوا جيداً، لكي تدركوا بعدها لماذا يوجد طائرات تنطلق من الأراضي الأمريكية باتجاه كوبا؛ اصغوا لما يقوله هذا السيّد- وفي جبال كوبا، يجب احتضانها ومساعدتها؛ وفي بلدان أخرى من أمريكا اللاتينية يجب الإبقاء على عزلة الشيوعية، وعدم السماح لها بالتمدُّد".

لو لم يكن كندي مليونيراً أمياً وجاهلاً (تصفيق)، لوجب عليه أن يدرك بأنه ليس بالوسع القيام بثورة ضد الفلاحين في الجبال، بدعم من الإقطاعيين، وأنه في كل مرة حاولت فيها الإمبريالية تشكيل مجموعات معادية للثورة، أخرجتها الميليشيات الفلاحية من المعركة خلال أيام قليلة. لكن يبدو أنه قرأ، أو شاهد مسلسلاً من إنتاج هوليوود، أو في فيلم سينمائي، أو أي قصة عن حرب العصابات، ويظن أن من الممكن، اجتماعياً، القيام بحرب عصابات في كوبا.

على كل حال، هو أمر مُحبِط، ولكن لا يظنَّن أحد أن وجهات النظر هذه عن تصريحات كندي تدلّ على أننا نشعر بأي تعاطف مع الآخر، السيد نيكسون (ضحك)، الذي أدلى بتصريحات مماثلة، بالنسبة لنا، كلاهما يفتقدان للمخ السياسي.

إلى هنا عرضنا لمشكلة بلدنا، وهو واجب أساسي علينا بتواجدنا في الأمم المتحدة، ولكن نفهم تماماً بأن من شأنه أن يكون أنانيّاً بعض الشيء من جانبنا أن يقتصر قلقنا على ما يحدث في حالتنا بالتحديد. وصحيح أننا استهلكنا معظم الوقت في إطلاع هذه الجمعية على حالة كوبا، وليس هو بكثير الوقت المتاح لدينا لتناول باقي القضايا، والتي نريد فقط أن نعرّج عليها باقتضاب.

لكن حالة كوبا ليست حالة معزولة. إنما هو خطأ الاعتقاد بأن هذه الحالة هي حالة كوبا. فحالة كوبا هي حالة كل البلدان النامية. حالة كوبا هي كحالة الكونغو، كحالة مصر، كحالة الجزائر، كحالة إيران الغربية (تصفيق)، إلى ما هنالك، كحالة بنما، التي تطالب بقناتها؛ كحالة بورتوريكو، التي يدمّرون فيها روح الانتماء الوطني، كحالة هندوراس، التي تشهد تمييزاً حيال جزء من أراضيها؛ وفي نهاية الأمر، مع أن اهتمامنا لم ينصبّ على بلدان أخرى محددة، فإن حالة كوبا هي حالة جميع البلدان الناميّة والمستعمَرة.

المشكلات التي عرضناها عن كوبا قابلة للتطبيق تماماً على كل بلدان أمريكا اللاتينية. فالسيطرة على الموارد الاقتصادية لأمريكا اللاتينية من قبل الشركات الاحتكارية، عندما لا تكون هذه مالكة مباشرة للثروات المعدنية وتتولّى استخراجها، كما هو حال النحاس في تشيلي أو بيرو أو المكسيك، أو حال الزنك في بيرو والمكسيك، أو حال النفط في فنزويلا، فهو لأنها صاحبة الخدمات العامة، شركات الخدمات العامة، كما يحدث في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وبيرو والإكوادور وكولومبيا، أو صاحبة خدمات الهاتف، كما يحدث فلي تشيلي والبرازيل وبيرو وفنزويلا وباراغواي وبوليفيا، أو لأنه إذا لم تكن تصدِّر منتجاتنا، كما يحدث مع البن البرازيلي والكولومبي والسلفادوري والكوستاريكي والغواتيمالي؛ أو مع الموز، الذي تستغلّه وتسوّقه، كما تنقله شركة "يونايتد فروت كومباني" في غواتيمالا وكوستاريكا وهندوراس، أو كالقطن المكسيكي أو القطن البرازيلي، فإنها تمارس احتكارها في أهم صناعات البلاد.

اقتصادياتٌ تابعة بالكامل للشركات الاحتكارية. الويل لها إن أرادت القيام أيضاً بإصلاح زراعي! فسيطالبونها حينها بالدفع العاجل والفعّال والعادل. وإذا ما قامت بإصلاحٍ زراعي رغم ذلك، فإن مندوب البلد الشقيق الذي يأتي إلى منظمة الأمم المتحدة سيقومون بنفيه إلى مانهاتن، ولن يؤجروه فندقاً، وستنهال عليه المشينات، حتى أنه من المحتمل أن يتعرض لسوء معاملة على يد رجال الشرطة.

مشكلة كوبا ليست إلا مثالاً على ما هي عليه أمريكا اللاتينية. وإلى متى ستظل أمريكا اللاتينية تنتظر تطورها؟ سيتعيّن عليها أن تنتظر، من وجهة نظر الشركات الاحتكارية، إلى ما شاء الله.

من سيقوم بتصنيع أمريكا اللاتينية؟ الاحتكارات؟ لا. هناك تقرير صدر عن الأمانة الاقتصادية للأمم المتحدة يشرح حتى كيف أن رأسمال الاستثمار من القطاع الخاص بدلاً من التوجّه إلى البلدان حيثما الحاجة له أكبر من أجل إقامة صناعات ثقيلة، من أجل الإسهام في التنمية، يتوجّه غالباً إلى البلدان الصناعيّة، لأنه يجد هناك أماناً أكبر، حسب ما يقولون أو يظنّون. وطبعاً، حتى الأمانة الاقتصاديّة للأمم المتحدة تعترف بأنه لا وجود لإمكانية التنمية من خلال رأسمال القطاع الخاص الاستثماري، أي من خلال الشركات الاحتكاريّة.

تطور أمريكا اللاتينية لا بدّ وأن يكون من خلال استثمارات عامّة، مبرمجة وموضوعة بدون شروط سياسيّة، لأنه بطبيعة الحال جميعنا نتمنّى أن نمثّل بلداً حرّاً ولا أحد يتمنى أن يمثل بلداً لا يشعر بأنه حر. لا أحد منّا يحبّ أن يكون استقلال بلده مربوطاً بمصالح غير مصالح البلاد. ولهذا فإن المساعدة يجب أن تخلو من الشروط السياسيَّة.

ألاّ يقدموا لنا مساعدة؟ لا يهم. نحن لم نطلبها. إنما، بما فيه مصلحة لشعوب أمريكا اللاتينية، نشعر أن من واجبنا التضامني أن نطرح بأن المساعدة يجب إلا تكون مربوطة بشروط سياسيّة. استثمارات عامّة من أجل التنمية الاقتصادية، وليس من أجل "التنمية الاجتماعيّة"، وهي آخر ما تم اختراعه من أجل إخفاء الحاجة الحقيقيّة للتنمية الاقتصاديّة.

مشكلات أمريكا اللاتينية هي كمشكلات العالم، بقية العالم، أفريقيا وآسيا. العالم مقسّم فيما بين الشركات الاحتكاريّة. هذه الشركات الاحتكارية نفسها التي نشاهدها في أمريكا اللاتينية نشاهدها أيضاً في الشرق الأوسط. فهناك النفط موجود بأيدي شركات احتكاريّة تشرف على مصالح ماليّة للولايات المتحدة وبريطانيا وهولندا وفرنسا.. في إيران، في العراق، في السعوديّة. هو كذلك في أي ركن من أركان الأرض. هو ذات الشيء الذي يحدث، على سبيل المثال، في الفلبين. هو نفس ما يحدث في أفريقيا. العالم مقسَّم بين المصالح الاحتكاريّة. من يتجرأ على إنكار هذه الحقيقة التاريخية؟ والمصالح الاحتكارية لا تريد للشعوب أن تنمو. ما تريده هو استغلال الموارد الطبيعية التي تملكها الشعوب واستغلال الشعوب نفسها. وكلّما كانت استعادتها للرأسمال المستثمَر أسرع، يكون الحال أفضل.

المشكلات التي واجهها الشعب الكوبي مع حكومة الولايات المتحدة الإمبريالية هي نفس المشكلات التي أمكن للسعودية أن تواجهها لو أمّمت نفطها، أو إيران أو العراق. نفس المشكلات التي واجهتها مصر عندما أمّمت قناة السويس، نفس المشكلات التي واجهتها أوقيانوسيا، أي إندونيسيا، عندما طالبت باستقلالها. نفس الهجوم المفاجئ على مصر، نفس الهجوم المفاجئ على الكونغو.

هل خلت جعبة المستعمِرين أو الإمبرياليين يوماً من الذرائع للغزو؟ أبداً! طالما تذرّعوا بحجة ما. ومن هي البلدان الرأسماليّة، من هي البلدان الإمبرياليّة؟ أربعة أو خمسة بلدان هي المالكة. ليس أربعة أو خمسة بلدان، وإنما أربع أو خمس مجموعات احتكاريّة هي التي تملك ثروة العالم.

لو جاء إلى هذه الجمعية شخص من كوكب آخر لم يقرأ لا البيان الشيوعي لكارل ماركس، ولا برقيات "يونايتد برس إنترناشونال" أو "أسوشييتد برس" أو باقي الوسائل الاحتكاريّة، وسأل كيف هو مقسّم العالم، كيف هو موزّع العالم، ورأى على الخارطة أن الثروات موزّعة فيما بين الشركات الاحتكارية لأربعة أو خمسة بلدان، بدون أي اعتبار، لقال: "هذا العالم سيئ التوزيع، هذا العالم مستغَلّ".

وهنا، حيث يوجد أغلبية ساحقة من البلدان النامية، يمكنه أن يقول: "أغلبية ساحقة من الشعوب التي تمثّلونها هي موضع استغلال، أنها تُستغَلُّ منذ زمن طويل. لقد اختلف شكل الاستغلال، ولكن استغلالكم لم يتوقف يوماً". هذا ما سيكون عليه حكمه.

ورد في خطاب رئيس الوزراء خروتشوف تأكيد لفت انتباهنا بشدة، وذلك لما يكتنزه من قيمة، وذلك لدى قوله بأن "الاتحاد السوفييتي لا يملك مستعمرات، وليس لديه استثمارات في أي بلد كان".

كم هو رائع سيكون عالمنا، عالمنا الذي تهدده اليوم الكوارث، لو كان بوسع جميع المندوبين أن يقولوا الشيء نفسه: "ليس لبلدنا أي مستعمرة، وليس لديه أي استثمار في أي بلد أجنبي". (تصفيق)

لماذا اللف والدوران في هذه القضية! هذا هو جوهر المسألة، بل وحتى هو جوهر السلام والحرب، وجوهر سباق التسلح أو نزع السلاح. فالحرب، منذ بداية وجود البشريّة، نشأت بشكل أساسي لسبب واحد: رغبة البعض في سلب آخرين ثرواتهم. فلتنتهي فلسفة السلب، وتكون قد انتهت فلسفة الحرب! (تصفيق) فلتنتهي المستعمرات، ولينتهي استغلال البلدان من قبل الشركات الاحتكاريّة، وتكون البشريّة قد حققت حينها مرحلة حقيقيّة من التقدّم!

ما لم تحدث هذه الخطوة، وما لم يتم الوصول إلى هذه المرحلة، على العالم أن يعيش بشكل متواصل كابوس التعرض لأي أزمة، لحرب ذريّة. لماذا؟ لأن هناك من هم مهتمّون بالإبقاء على السلب، هناك من هم مهتمّون بالإبقاء على الاستغلال.

لقد تحدثنا نحن هنا عن حالة كوبا. وقد علّمتنا حالتنا، ونظراً للمشكلات التي واجهناها مع إمبرياليتنا، أي الإمبريالية التي تقف ضدنا... ولكن، في نهاية المطاف، كل الإمبرياليات متساوية، وجميعها متحالفة. البلد الذي يستغل شعوب أمريكا اللاتينية أو أي بقعة أخرى من العالم هو حليف في استغلال باقي شعوب العالم!

الحقيقة أن هناك أمر في خطاب السيد رئيس الولايات المتحدة بعث عندنا الكثير من التوجس، عندما قال:

"في المناطق النامية، من واجبنا أن نسعى لتشجيع التغييرات السلميّة، والمساعدة على تحقيقهم لتقدمهم الاقتصادي والاجتماعي. في سبيل فعل ذلك، في سبيل تحقيق هذا التغيير، يجب أن يكون لدى المجتمع الدولي القدرة على التعبير عن حضوره حالما يقتضي الأمر، وذلك من خلال إرسال مراقبين أو قوات تابعة للأمم المتحدة.

أتمنى من الدول الأعضاء أن تتخذ إجراءات إيجابية حول التعليمات الواردة في تقرير الأمين العام، سعياً لتكوين طاقم ذي مهارة داخل الأمانة لكي يساعد على تلبية احتياجات القوات التابعة للأمم المتحدة".

أي أنه بعد اعتباره لأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وأوقيانوسيا "مناطق تنمية"، يدعو إلى تشجيع "التغييرات السلميّة"، بل وأنه في سبيل ذلك يقترح استخدام "مراقبين" أو "قوات تابعة للأمم المتحدة". هذا يعني أن الولايات المتحدة ظهرت للعالم بفعل ثورة على الذين كانوا يستعمرونها. حق الشعوب بالتحرر ثورياً من الاستعمار أو من أي شكل من أشكال الاضطهاد اعترف به بيان الخامس من تموز/يوليو 1775 الصادر في فيلادلفيا، واليوم حكومة الولايات المتحدة تدعو إلى استخدام قوات الأمم المتحدة لمنع التغييرات الثورية.

الأمين العام يقترح الآن أن من واجب الدول الأعضاء أن تبدي استعدادها لتلبية طلبات مستقبلية من الأمم المتحدة لكي تساهم في حفظ تلك القوات. جميع البلدان الممثَّلَة هنا من واجبها أن تستجيب لهذه الضرورة، من خلال الإسهام بفصائل وطنية لتنضم إلى قوات الأمم المتحدة إذا دعت الحاجة. اللحظة المناسبة لفعل ذلك هي الآن، في هذه الجمعية. أؤكد للبلدان التي تتلقى معونة الآن من الولايات المتحدة الأمريكية أننا نؤيد استخدام هذه المعونة لمساعدتها في حفظ الفصائل بالطريقة التي يقترحها الأمين العام. أي أنه يقترح على البلدان التي يوجد فيها قواعد وتتلقى معونة، أنهم مستعدون لتقديم مزيد من العون لها لتأهيل قوات الطوارئ هذه. في سبيل التعاون مع جهود الأمين العام، الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لأن تقدّم أيضاً تسهيلات هامة ذات طابع جوي وبحري من أجل نقل الفصائل التي تطلبها الأمم المتحدة في أي وضع طارئ في المستقبل. أي أنها تعرض حتى سفنها وطائراتها لقوات الطوارئ هذه، ونودّ أن نعبّر هنا بأن الوفد الكوبي غير موافق على قوة الطوارئ هذه ما دامت شعوب العالم غير متأكدة من عدم وضعها بخدمة الاستعمار والإمبريالية (تصفيق)، لا سيّما وأن أي واحد من بلداننا يمكنه أن يتحوّل في أي لحظة من اللحظات إلى ضحية لاستخدام هذه القوة ضد حق شعوبنا.

هناك العديد من المشكلات التي تناولتها مختلف الوفود. ببساطة، وبسبب ضيق الوقت، نودّ فقط أن نوثّق رأينا حول مشكلة الكونغو. يمكنكم أن تتصوروا أنه انطلاقاً من موقفنا المناهض للاستعمار والمعادي لاستغلال البلدان النامية، نحن ندين الطريقة التي تم بها تدخّل القوات التابعة للأمم المتحدة في الكونغو.

أولاً، لم تذهب هذه القوات إلى هناك للتحرك ضد القوات المتدخِّلة، وهو الدافع لاستدعائها. اتسع الوقت اللازم لها لكي تتسبب بأول نزاع. وعندما بدا ذلك غير كافٍ بعد، أخذت وقتاً آخر وأتاحت الفرصة أمام نشوء ثاني نزاع، وأخيراً، وبينما كان يجري هناك احتلال المحطات الإذاعية والمطارات، أتيحت الفرصة لكي ينشأ الرجل الثالث، كما يسمّون أولئك الرجال المنقذين الذي ينشأون في هذه الظروف. إننا نعرفهم تمام المعرفة، لأنه في عام 1934 نشأ في بلدنا أيضاً واحد من هؤلاء المخلّصين، وكان يُدعى فولخينسيو باتيستا. في الكونغو يُدعى موبوتو. في كوبا كان يزور السفارة الأمريكية يومياً، ويبدو أنه في الكونغو كذلك. هل لأننا نحن نقول ذلك؟ لا. لأنه ما تقوله مجلة هي أكبر مدافع عن الاحتكارات وبالتالي لا يمكنها أن تكون ضدها. لا يمكنها أن تكون مؤيدة للومومبا، لأنها ضد لومومبا، وهي مع موبوتو. ولكنها تشرح أيضاً مَن هو وكيف برز ولمَ كرّس جهوده، فتقول ختاماً مجلة "تايمز" في عددها الأخير: "بدأ موبوتو زيارة سفارة الولايات المتحدة بصورة متكررة وإجراء محادثات مطوّلة مع موظفيها. عصر أحد أيام الأسبوع الماضي، حاضر موبوتو بضبّاط في ليوبولد كمب وكسب دعمهم بحرارة. مساء ذلك اليوم توجّه إلى إذاعة الكونغو، نفس إذاعة الكونغو التي لم يسمحوا للومومبا باستخدامها، وأعلن على حين غرّة بأن الجيش قد أمسك بالحُكم".

أي أن كل شيء قد حدث بعد زيارات متكررة ومحادثات مطوّلة مع موظفين بسفارة الولايات المتحدة –هذا ما تقوله "تايمز"، المدافعة عن الاحتكارات.

هذا يعني أن يد المصالح الاستعماريّة حاضرة بجلاء ووضوح في الكونغو، وعليه فإن وجهة نظرنا هي أنه قد اسيء التصرف، أنه قد تمت مؤازرة المصالح الاستعماريّة وأن كل الوقائع تدلّ على أن شعب الكونغو والعقل في الكونغو هما إلى جانب القائد الوحيد، الذي مكث هناك للدفاع عن مصالح وطنه، وهذا القائد هو لومومبا (تصفيق).

على ضوء هذا الوضع، إذا تمكنت البلدان الأفرو-آسيوية وهذا الرجل الغامض الثالث الذي ظهر هناك في الكونغو، والمدعو ليحل محل الحكومة الشرعية في الكونغو ومعها المصالح المشروعة لشعب الكونغو، إذا ما تمكنت من حمل هذه السلطات الشرعية إلى المصالحة دفاعاً عن مصالح الكونغو، يكون الحال أفضل، ولكن إذا لم تتحقق هذه المصالحة، فإن الحق والقانون يكونان إلى جانب، ليس فقط من يحظى هناك بدعم الشعب والبرلمان، وإنما من عرف الصمود في وجه مصالح الاحتكارات، عرف كيف يبقى إلى جانب الشعب.

في ما يتعلق بقضية الجزائر، لا بد من القول اننا نقف مائة بالمائة إلى جانب حق الجزائر باستقلالها (تصفيق)؛ وبالإضافة لذلك، إنه لمن السخيف، كسخف أشياء أخرى كثيرة في هذه الحياة المصطنعة التي توفرها لهم المصالح المفبركة، من السخيف اعتبار الجزائر جزءاً من الأمة الفرنسيَّة. وكذلك سعت بلدان أخرى من أجل الإبقاء على مستعمراتها في أزمنة أخرى. هذا ما يسمى "الإلحاق" فشل تاريخياً. فلنبحث المسألة من زاوية معكوسة، أن تكون الدولة المستعمِرة الجزائر وأن تعلن بأن قطعة من أوروبا تشكّل جزءاً لا يتجزأ من أراضيها. وهذا بكل بساطة هو سبب كاد أن يُشهَر ولا معنى له البتة. الجزائر، أيها السادة، أفريقية كما هي فرنسا أوروبية.

لكن، منذ عدة سنوات وهذا الشعب الأفريقي يخوض معركة بطوليّة في وجه الدولة المستعمِرة. لعله في هذه اللحظات التي نتباحث فيها نحن بطمأنينة، تسقط على القرى والمدن الجزائرية رشقات وقنابل الحكومة أو الجيش الفرنسي. ها هم الرجال يقضون في صراع لا يتسع المجال فيه لأدنى شك حول مَن من الجانبين صاحب الحق والذي بالإمكان حلّه مع الأخذ بعين الاعتبار حتى مصالح أقلية هناك، وهي أقليّة يتم شهرها كحجة لحجب الحق بالاستقلال عن تسعة أعشار سكان الجزائر. لكننا لا نفعل شيئاً. انظروا إلى السرعة التي ذهبنا بها إلى الكونغو وقلّة الحماس الذي نبديه للذهاب إلى الجزائر (تصفيق). وإذا ما طلبت الحكومة الجزائرية أيضاً –وهي أيضاً حكومة لأنها تمثّل ملايين الجزائريين المناضلين- أن تذهب قوات الأمم المتحدة إلى هناك، هل سنذهب بنفس الحماس؟ ليتنا نذهب بنفس الحماس، ولكن لأهداف مختلفة تماماً، أي بهدف الدفاع عن مصالح المستعمَرة وليس مصالح المستعمِرين!

وعليه فإننا نقف إلى جانب الشعب الجزائري، كما نقف إلى جانب ما تبقى من الشعوب الخاضعة للاستعمار في أفريقيا، وإلى جانب الزنوج الذين يخضعون للتمييز في اتحاد جنوب أفريقيا، وإلى جانب الشعوب التي تتطلّع للحريّة، ليس فقط السياسية، لأنه من السهل جداً أن تضع علَماً ودرعاً ونشيداً وطنياً ولوناً على الخريطة، وإنما الحرية الاقتصادية. إن هناك حقيقة من واجبنا أن نعرفها جميعاً كحقيقة أولى، وهي أنه لا وجود للاستقلال السياسي إن لم يكن هناك استقلال اقتصادي، وأن الاستقلال السياسي هو أكذوبة إن لم يكن هناك استقلال اقتصادي. وعليه، فإننا نساند الطموح للحرية السياسية والاقتصادية، وليس فقط التمتع بعلم ودرع وتمثيل في منظمة الأمم المتحدة. ونحن هنا نود طرح حق آخر، وهو حق أعلنه شعبنا في لقاء حاشد قبل أيام قليلة، وهو حق البلدان النامية بتأميم الموارد الطبيعية واستثمارات الشركات الاحتكارية في أراضيها بدون تعويضات. أي أننا ندعو إلى تأميم الموارد الطبيعية والاستثمارات الأجنبية في البلدان النامية.

وإذا ما كانت البلد المتطورة صناعياً تريد أن تفعل ذلك، فلا اعتراض لدينا. (تصفيق)

لكي تستطيع البلدان أن تكون حرة بالفعل من الناحية السياسية، يجب أن تكون حرة بالفعل من الناحية الاقتصادية، وآنذاك مساعدتها. سيسألوننا عن حجم الاستثمارات، ونحن نسأل عن حجم الأرباح، الأرباح التي كانوا وما يزالون يستخرجونها من البلدان الخاضعة للاستعمار والتخلّف على مدار عقود، إن لم يكن، قرون، من الزمن!

هناك أيضاً اقتراح من رئيس وفد غانا، نود نحن التعبير عن دعمنا له. الاقتراح بأن يتم إخلاء الأراضي الأفريقية من القواعد العسكريّة وبالتالي من قواعد الأسلحة النوويّة؛ أي مقترح إخلاء افريقيا من مخاطر قيام حرب ذريّة. لقد قيل بعض الشيء عن القطب الجنوبي. ريثما نتقدّم في طريق نزع السلاح، لماذا لا نسعى للتقدم أيضاً في طريق إخلاء مناطق معينة من الأرض من خطر الحرب النووية؟ ما دامت أفريقيا تنبعث، هذه الأفريقيا التي نتعلّم اليوم التعرّف عليها، وليس الأفريقيا التي درّسونا إياها على الخريطة، وليس الأفريقيا التي عرّفونا عليها في أفلام هوليوود وفي الروايات، وليس تلك الأفريقيا حيث تظهر القبائل دائما شبه عارية، ومسلحة بالرماح، ومستعدة لخوض أول صدام مع البطل الأبيض، والبطل الأبيض الذي يكون أكثر بطولة كلّما زاد عدد الأفارقة الأصليين الذين يقتلهم. تلك الأفريقيا التي تسري هنا بعروق قادة مثل نكروما وسيكو توريه، أو تلك الأفريقيا العربية التي يقودها جمال عبد الناصر، تلك الأفريقيا الحقيقية، القارة المضطهَدة، القارة المستغلَّة التي جاء منها ملايين العبيد، تلك الأفريقيا التي عانت كل ما عانت من ألم في تاريخها. تجاه الأفريقيا هذه علينا واجب: حمايتها من خطر الدمار، عوِّضوا في شيء تلك الشعوب؛ وليعوّض الغرب بشيء عن الكثير الذي جعل أفريقيا تعانيه، من خلال حمايتها من خطر الحرب الذريَّة، بإعلان أفريقيا منطقة خالية من هذا الخطر، بألا تقام هناك قواعد نووية، وأن تظل هذه القارة على الأقل، ما دمنا لا نستطيع فعل شيء آخر، الملجأ الذي تكون فيه حياة الإنسان في مأمن (تصفيق مطوَّل). ندعم بقوّة هذا الاقتراح.

وفي قضية نزع الأسلحة، في قضية نزع الأسلحة ندعم الاقتراح السوفييتي كليّاً –ولا نخجل هنا من دعم الاقتراح السوفييتي. نرى بأنه اقتراح صحيح، دقيق، نبق وواضح.

قرأنا بعناية الخطاب الذي ألقاه هنا، على سبيل المثال، الرئيس إيزنهاور، وهو في الواقع لم يتكلّم لا عن نزع الأسلحة ولا عن تنمية البلدان المتخلّفة، ولا عن مشكلات المستعمرات. الحقيقة أن الأمر يستحق بان ينكب مواطني هذا البلد، المتأثرين جداً بالإعلام الكاذب، في لحظة من الموضوعية، على قراءة خطابي رئيس الولايات المتحدة ورئيس الوزراء السوفييتي، لكي يلحظوا أين يوجد قلق صادق إزاء مشكلات العالم، لكي يلحظوا أين يتم الحديث بوضوح وبصدق؛ ولكي يلحظوا أيضاً من هم الذين يسعون إلى نزع السلاح ومن هم الذين لا يريدون نزعاً للسلاح، ولماذا.

لا يُمكن للاقتراح السوفييتي أن يكون أكثر وضوحاً. لا يُمكن مُطالبة المقترح السوفييتي بالمزيد. لمَ التحفّظ في وقت لم يتم فيه الحديث أبداً من قبل بكل هذا الوضوح عن مشكلة بالغة العِظَم كهذه؟

لقد علّمنا التاريخ بصورة مأساويّة أن سباقات التسلح طالما أدّت إلى الحرب؛ ولكن لم يسبق للحرب أبداً من قبل أن عنت كارثة بكل هذا الحجم بالنسبة للبشريّة، وبالتالي لم يسبق أبداً للمسؤولية أن كانت أكبر مما هي عليه الآن. وحول هذه المشكلة المثيرة لقلق عظيم عند البشرية –درجة أنها يمكن أن تكلف وجود هذه البشرية- طرح الوفد السوفييتي اقتراحاً بنزع السلاح الشامل والكامل، بشكل واسع. هل يُمكن طلب أكثر من ذلك؟ اطلبوا، إذا كان بالإمكان طلب المزيد! مزيداً من الضمانات، إذا كان بالإمكان طلبها، اطلبوها! لكن لا يمكنه أن يكون أكثر وضوحاً ونبقاً، ولن يكون بالإمكان من الزاوية التاريخية الردّ بالرفض من دون تحمّل المسؤولية التي يترتّب عنها خطر الحرب والحرب نفسها.

لماذا يُرادُ إخراج الموضوع من الجمعية العامة؟ لماذا لا يريد وفد الولايات المتحدة بحث المشكلة فيما بيننا جميعاً هنا؟ هل أن لا رأي لنا في ذلك؟ ألا ينبغي أن نكون على دراية بها؟ ألا بد من اجتماع لجنة؟ لمَ لا يكون الأمر بأفضل السبل الديمقراطية؟ أي أن تبحث الجمعية العامة، جميع المندوبين هنا، مشكلة نزع السلاح، وأن يضع الجميع الأوراق على الطاولة، لكي يُعرف من هم الذين يريدون ومن هم الذين لا يريدون نزع الأسلحة؛ من هم الذين يريدون ومن هم الذين لا يريدون المضي في لعبة الحرب؛ ومن هم الذين يخونون هذا الأمل الذي يراود البشرية؛ لأنه لا ينبغي أبداً السير بالبشرية نحو كارثة انطلاقاً من مصالح أنانيّة ودنيئة! يجب حماية البشرية، شعوبنا، وليس نحن، من هذه الكارثة، كي لا يوضع كل ما كوّنته المعرفة والذكاء البشري في خدمة تدمير البشرية بحد ذاته.

لقد تحدث الوفد السوفييتي بوضوح، وأقول ذلك بموضوعيّة، وأدعو إلى دراسة هذه المقترحات، وأن يضع الجميع أوراقهم على الطاولة. وعلى الأخص، أن هذه المسألة ليست مسألة تخص وفود، إنها قضية رأي عام! دعاة الحروب والجانحون لها يجب الكشف عنهم وإدانتهم من قبل الرأي العام في العالم! هذه مسألة لا تخصّ أقليّات، وإنما تخصّ العالم، ولا بد من إسقاط القناع عن دعاة الحروب والجانحين لها، وهذه المهمة تقع على عاتق الرأي العام. لا ينبغي بحث القضية في الجلسة العامة فقط. يجب بحثها أمام العالم بأسره. يجب بحثها أمام الجمعية الكبرى للعالم كلّه، لأنه في حال وقوع الحرب لن يفنى المسؤولون عن إشعالها فقط. سيفنى مئات الملايين من الأبرياء الذين لا يتحمّلون أي ذنب، وعليه فإن علينا نحن المجتمعون لنا كممثلين للعالم –أو لجزء من العالم، لأن ليس العالم كله هنا بعد، ولن يكون العالم كاملاً إلى أن تتواجد هنا جمهورية الصين الشعبية!- من واجبنا أن نتخذ إجراءات (تصفيق). رُبع العالم غائب طبعاً عن هذه الجمعية، لكن واجب الجزء المتواجد هنا منه أن يتكلّم بوضوح وليس التهرّب من الواقع، وأن نناقش الأمر جميعاً، فهذه المشكلة هي مشكلة بالغة الجدّيّة، إنها مشكلة أهم من المساعدة الاقتصادية ومن كل باقي الالتزامات، لأن هذا هو الالتزام بحماية حياة البشريَّة. لنناقش جميعاً، ولنتكلم جميعنا عن هذه القضية ولنكافح جميعنا من أجل السلام أو، عل الأقل، من أجل إسقاط القناع عن دعاة الحروب والجانحين لها. وقبل كل شيء، إذا كنّا نحن البلدان النامية نريد أن يكون لدينا بصيص أمل بالتقدم، إذا كنّا نريد أن نأمل برؤية شعوبنا تتمتع بمستوى حياة أفضل، فلنناضل من أجل السلام، ولنناضل من أجل نزع السلاح، فبواسطة خُمس ما يتم إنفاقه على الأسلحة في العالم يمكن الترويج لنمو جميع البلدان النامية بنسبة من النمو تصل إلى 10 بالمائة سنوياً. بواسطة الخُمس! ويمكن طبعاً رفع مستوى حياة البلدان التي تنفق مواردها على الأسلحة.

والآن، ما هي الصعوبات التي تعترض نزع السلاح؟ من هم المهتمّون بأن يكونوا مسلّحين؟ المهتمون بالتسلّح حتى العَظم هم أولئك الذين يسعون للإبقاء على المستعمرات، أولئك الذين يريدون الإبقاء على احتكاراتهم، أولئك الذين يريدون مواصلة سيطرتهم على نفط الشرق الأوسط، والموارد الطبيعية بأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا؛ ومن أجل الدفاع عنها يحتاجون للقوّة. وأنتم تعرفون تماماً أنه بموجب قانون القوّة تم احتلال تلك البقاع وجرى استعمارها؛ وبموجب قانون القوّة تم استعباد ملايين البشر. والقوة هي التي تحافظ على هذا الاستغلال في العالم. بعد ذلك، أوائل المهتمّين بعدم نزع السلاح هم المهتمّون بالإبقاء على القوّة من أجل المحافظة على سيطرتهم على الموارد الطبيعية وعلى ثروات الشعوب، وعلى اليد العاملة الرخيصة في البلدان النامية. وعدنا بالتحدث بصراحة، ولا يمكن إطلاق تسمية الحقيقة بغير اسمها.

ثم أن المستعمرون هم أعداء نزع السلاح. لا بد من العمل مع الرأي العام العالمي من أجل فرض نزع السلاح عليهم، كما لا بد من العمل مع الرأي العام العالمي وحق الشعوب بالتحرر السياسي والاقتصادي.

الشركات الاحتكارية هي عدوة نزع السلاح، لأنه بالإضافة لاستخدامها الأسلحة في الدفاع عن هذه المصالح، طالما شكّل سباق التسلّح تجارة كبرى بالنسبة للشركات الاحتكارية. وعلى سبيل المثال، الجميع يعرف أن الشركات الاحتكارية الكبرى في هذا البلد ضاعفت رؤوس أموالها على أثر الحرب العالمية الثانية. وكالغربان، تتغذى الشركات الاحتكارية الكبرى من الجثث التي تجلبها لنا الحروب.

والحرب تجارة. لا بد من إماطة اللثام عن المتاجرين بالحرب، عن الذين يغتنون من الحرب. لا بدّ من فتح عيون العالم، وتعليمه بأن المتاجرين بمصير البشرية هم الذين يتاجرون بخطر الحرب، وخاصة عندما تبلغ الحرب من الشراسة أنها لا تدع أملاً للعالم بالتحرر والخلاص.

وهذه هي المهمة التي ندعو نحن، البلد الصغير والنامي، باقي البلدان الصغيرة والنامية، لا سيّما هذه الجمعية كلّها، للكفاح ولطرحها هنا، فبعد ذلك لن نغفر لأنفسنا عواقب انزلاق العالم، جرّاء إهمالنا أو بسبب انعدام الثبات أو الشدة في تناول هذه المسألة، إلى مخاطر الحروب بشكل أكبر يوماً بعد يوم.

ما زالت لدينا نقطة، والتي، حسب ما قرأنا في بعض الصحف، ستكون واحدة من نقاط الوفد الكوبي، وهو أمر منطقي، ونخص بالذكر مشكلة جمهورية الصين الشعبية.

لقد عرضت وفود أخرى هذا الموضوع. ونحن نريد أن نعبّر بأن عدم التفضّل حتى ببحث المشكلة هنا هو في الواقع نفي لدافع وجود الأمم المتحدة ولجوهرها. لماذا؟ لأنها إرادة حكومة الولايات المتحدة. لماذا ستتخلّى جمعية الأمم المتحدة عن حقها في بحث هذه المشكلة؟

لقد انضم العديد من البلدان إلى المنظمة في السنوات الأخيرة. إن رفض بحث حقوق جمهورية الصين الشعبية هنا هو نفي لواقع التاريخ، ونفي لواقع الأحداث وللحياة نفسها؛ أي حق 99 بالمائة من سكان بلد يبلغ تعداده السكاني أكثر من 600 مليون نسّمة بأن يكونوا ممثَّلين هنا. إنه لمن الهراء والتفاهة عدم التفضّل حتى ببحث المشكلة، وإلى متى سنواصل قيامنا بهذا الدور المؤسف بعدم حتّى مناقشة هذه القضية؟، وذلك في وقت نجد هنا ممثلين عن فرانكو، بإسبانيا، على سبيل المثال...

بودّنا أن نعرض فكرة عن الكيفية التي نشأت بها الأمم المتحدة.

نشأت بعد الصراع مع الفاشية، بعد مقتل عشرات الملايين من البشر. وهكذا، من تلك الحرب التي كلّفت ذلك الكمّ من الأرواح، نشأت هذه المنظمة كأمل. غير أن هناك مفارقات ما فوق العادية: بينما كان الجنود الأمريكيون يسقطون في غوام أو في غوادالكانال أو في أوكيناوا أو في واحدة من الجزر الآسيوية الكثيرة، كان يسقط أيضاً في الأراضي القاريّة الصينيّة بمواجهة العدو نفسه، ذات البشر الذين يُحرَمون اليوم من حق بحث انضمامهم إلى الأمم المتحدة. وبينما كان جنود من اللواء الأزرق يحاربون في الوقت نفسه في الاتحاد السوفييتي دفاعاً عن الفاشية، تُحرم جمهورية الصين الشعبية من الحق ببحث حالتها هنا، في الأمم المتحدة.

لكن ذلك النظام الذي أنتجته النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، والذي استولى على السلطة مدعوماً بمدافع وطائرات هتلر و"القمصان السود" بقيادة موسوليني، حظي بشرف الانتماء للأمم المتحدة.

تمثّل الصين ربع العالم. ما هي الحكومة التي تمثل هذا البلد بالفعل، هذا البلد الأكبر في العالم؟ بكل بساطة، حكومة جمهورية الصين الشعبية. وهناك يقوم نظام آخر، في خضم حرب أهلية، أوقفها تدخّل الأسطول السابع الأمريكي.

يجدر هنا التساؤل بموجب أي حق تدخَّل أسطول بلد من خارج القارة –ويستحق الأمر أن نكرر هذا الأمر هنا – في وقت يكثر فيه الحديث عن تدخلات من خارج القارة، فليقدَّم لنا تفسيراً لسبب تدخّل بلد من خارج القارة هناك، في قضية داخلية صينيَّة، لهدف واحد وحيد هو الإبقاء هناك على مجموعة مدمنة ومنع التحرير الكامل لأراضيها. بما أن هذا الظرف هو ظرف أخرق وظرف لاشرعي من كل النواحي، هو هذا السبب الذي يمنع رغبة حكومة الولايات المتحدة ببحث مشكلة جمهورية الصين الشعبية. ونحن نريد أن نوثّق هنا وجهة نظرنا هذه وتأييدنا لبحثها ولأن تُجلِس جمعية الأمم المتحدة هنا الممثلين الشرعيين للشعب الصيني، وهم ممثلي حكومة جمهورية الصين الشعبية.

أدرك تماماً بأنه من الصعب بعض الشيء أن يتحرر أحد هنا من المفاهيم الموضوعة مسبقاً التي يتم بها عادة الحُكم على ممثلي الدول. من واجبي أن أقول هنا أننا أتينا متحررين من الأحكام المسبقة لنبحث المشكلات بشكل موضوعي، بدون خوف الظّن ما يُظنّ، أو بدون خوف من عواقب موقفنا.

في نهاية المطاف، نعبّر عن ثقتنا بترجيح العقل، ونعبّر عن ثقتنا بنزاهة الجميع. في ما يتعلّق بمشكلات العالم هذه، نودّ أن نوجز رأينا بشأنها، وهو رأي لا يحتمل أي شك. لقد عرضنا مشكلتنا هنا. إنها تشكل جزءاً من مشكلات العالم. أولئك الذين يعتدون علينا اليوم هم الذين يساعدون العدوان على آخرين في أماكن أخرى من العالم.

لا يُمكن لحكومة الولايات المتحدة أن تقف إلى جانب الشعب الجزائري، لأنها حليفة الدولة المستعمِرة: فرنسا. لا يُمكنها أن تقف إلى جانب شعب الكونغو، لأنها حليفة بلجيكا. لا يُمكنها أن تقف مع الشعب الإسباني، لأنها حليفة فرانكو. لا يمكنها أن تقف مع الشعب البورتوريكي، الذي عكفت على محو هويته على مدار نحو خمسين سنة. لا يمكنها أن تقف مع البنميين، الذين يطالبون بالقناة. لا يُمكنها أن تساند صعود السلطة المدنية في أمريكا اللاتينية ولا في ألمانيا ولا في اليابان. لا يمكنها أن تقف مع الفلاحين الذي يريدون أرضاً، لأنها حليفة الإقطاعيين. لا يمكنها أن تقف مع العمال المطالبين بظروف حياتية أفضل، في أي مكان من العالم، لأنها حليفة الشركات الاحتكارية. لا يمكنها أن تقف مع المستعمرات التي تسعى للتحرُّر، لأنها حليفة المستعمِرين.

أي أنهم مع فرانكو، مع استعمار الجزائر، مع استعمار الكونغو، هم مع الإبقاء على امتيازاتهم ومصالحهم في القناة، مع الاستعمار في العالم كلّه. هم مع الحكم العسكري في ألمانيا ومع انبعاث الحكم العسكري في المانيا. هم مع الحكم العسكري في اليابان ومع انبعاث الحكم العسكري في اليابان.

حكومة الولايات المتحدة تنسى ملايين العبريين الذين قُتلوا في معسكرات الاعتقال في أوروبا على يد النازيين الذين يستعيدون اليوم نفوذهم في الجيش الألماني. تنسى الفرنسيين الذين قُتلوا هناك في كفاحهم البطولي بوجه الاحتلال. تنسى الجنود الأمريكيين الذين قضوا على خط سيغفريد، أو في روهر أو في الراين أو على جبهات آسيا. لا يُمكنها أن تكون مع وحدة أراضي وسيادة البلدان. لماذا؟ لأنها بحاجة للانتقاص من سيادة البلدان لكي تبقي على قواعدها العسكرية، وكل قاعدة هي خنجر مغروس في قلب السيادة، كل قاعدة هي سيادة منتقصة.

لهذا لا بدّ وأن تكون ضد سيادة الشعوب، لأنها بحاجة للانتقاص من السيادة لكي تحافظ على سياسة إقامتها للقواعد حول الاتحاد السوفييتي، وندرك أن هذه المشكلات لا يتم شرحها جيداً للشعب الأمريكي، لأنه يكفي الشعب الأمريكي أن يتصوّر ما سيكون عليه أمنه إذا ما شرع الاتحاد السوفييتي بإقامة حزام من القواعد النووية في كوبا أو في المكسيك أو في كندا. ليس بإمكان المواطنين أن يشعروا بالأمان، لا يُمكنهم أن يشعروا بالطمأنينة.

لا بدّ من توعية الرأي العام العالمي، والذي يشمل طبعاً الرأي العام الأمريكي، على ضرورة النظر للمشكلات من زاوية أخرى، من زاوية الآخرين. ليس إظهارنا نحن البلدان النامية دائماً على أننا معتدين، إظهارنا نحن الثوار كمعتدين، كأعداء للشعب الأمريكي. نحن لا يمكننا أن نكون أعداءً للشعب الأمريكي، لأننا رأينا أمريكيين أمثال كارلتون بيلز أو والدو فرانك، وغيرهما من رجال الفكر البارزين والمرموقين، ممن أدمعت عيونهم الأخطاء المرتكبَة وانعدام حسن الضيافة الذي تم ارتكابه بحقنا. أرى في كثيرين من الأمريكيين، أكثر الكّتاب إنسانية، أكثر الكتّاب تقدميَّة، أرفع الكتاب مقاماً، نُبل القادة الأوائل لهذا البلد، نُبل واشنطن، نُبل جيفرسون، ونُبل لينكولن. اقول ذلك بعيداً عن أي ديماغوجيّة، انطلاقاً من التقدير الصادق الذي نشعر به إزاء أولئك الذين عرفوا يوماً كيف يحررون شعبهم من استعماره والكفاح، ليس لكي يكون بلدهم حليفاً لكل الرجعيين في العالم، حليف كل قطاع الطرق في العالم، حليف الإقطاعيين، والشركات الاحتكارية، وأكثرهم رجعية، وإنما لكي يكون بلدهم دائماً مدافعاً عن الطيّبين وعن الأفكار العادلة.

بالمناسبة، نعرف ما الذي سيقولونه للشعب الأمريكي عنّا اليوم وغداً ودائماً لكي يخدعوه. ولكن لا يهمّ. قمنا بواجبنا التعبير عن هذه المشاعر في هذه الجمعية التاريخية. دعونا إلى حق الدول بسلامة أراضيها، وحق الشعوب بهويتها، ويتآمر على الوطنية أولئك الذي يعرفون بأن الوطنية تعني الكفاح من أجل استعادة ما هو لك، ثرواتك، مواردك الطبيعيّة.

باختصار، نحن مع كل التطلعات النبيلة لكل الشعوب. هذا هو موقفنا. نقف وسنقف دائماً مع كل ما هو عادل: في وجه الاستعمار، في وجه الاستغلال، في وجه الاحتكارات، في وجه الأنظمة العسكرية، في وجه سباق التسلح، في وجه لعبة الحرب. سنقف دائماً ضد كل هذا. وهذا ما سيكون عليه موقفنا.

في الختام، ووفاء لما نرى بأنه واجب علينا، نعرض الجزء الأساسي من "إعلان هافانا" في رواق هذه الجمعية. تعلمون أنتم بأن "إعلان هافانا" كان رد الشعب الكوبي على "ميثاق كوستاريكا". لم يجتمع عشرة، ولا مائة، ولا مائة ألف، وإنما اجتمع أكثر من مليون كوبي. والذين لا يراودنّكم أدنى شك، تستطيعون أن تذهبوا إلى التجمّع أو الجمعية العامة المقبلة التي نقيمها في كوبا، وأنتم على ثقة بأنكم سترون مشهداً لشعب حي وشعب واعٍ، يصعب أن تكون قد أتيحت الفرصة أمامكم لرؤيته من قبل، ولا يمكن رؤيته إلا عند مدافعة الشعوب بحمية عن أكثر مصالحها قدسية.

في تلك الجمعية رداً على "ميثاق كوستاريكا"، تم في مشاورة مع الشعب وبتصفيق منه، اعتماد المبادئ التالية كمبادئ للثورة الكوبية:

"’الجمعية العامة الوطنية للشعب الكوبي‘ تدين الإقطاع بصفته مصدراً لبؤس الفلاحين ونظام الإنتاج الزراعي المتخلِّف واللاإنساني؛ وتدين معاشات الجوع والاستغلال الجائر لعمل الإنسان على يد مصالح فاسدة ومتميّزة؛ وتدين الأميّة وغياب المعلّمين والمدارس والأطباء والمستشفيات؛ وانعدام حماية الشيخوخة السائد في القارة الأمريكية؛ وتدين تمييز الزنجي والمواطن الأصلي؛ وتدين اللامساواة واستغلال المرأة؛ وتدين الأوليغارشيّات العسكرية والسياسية التي تُبقي على شعوبنا في حالة بؤس وتمنع تطورها الديمقراطي وممارستها الكاملة لسيادتها؛ وتدين منح الامتيازات لاستغلال الموارد الطبيعية في بلداننا لشركات احتكارية أجنبية كسياسة استسلامية تخون مصلحة الشعوب؛ تدين الحكومات التي تتجاهل مشاعر شعوبها امتثالاً لأوامر خارجية؛ تدين الخداع المنتظم للشعوب من قبل وسائل إعلام تستجيب لمصالح الأوليغارشيّات وسياسة الإمبريالية المضطهِدة؛ تدين احتكار الإعلام من قبل وكالات احتكاريّة أدوات بيد مجموعات الشركات الاحتكارية وعميلة لمصالحها؛ تدين القوانين القمعيّة التي تمنع العمال والفلاحين والطلاب والمثقفين، الأغلبيات الكبرى في كل بلد، من تنظيم صفوفها والنضال من أجل تحقيق مطالبها الاجتماعية والوطنية؛ وتدين الاحتكارات والشركات الإمبريالية التي تنهب ثرواتنا باستمرار وتستغل عمالنا وفلاحينا، وتُدمي اقتصادياتنا وتجعلها في حالة تخلّف، وتُخضع سياسة أمريكا اللاتينية لإملاءاتها ومصالحها.

وتدين ’الجمعية العامة الوطنية للشعب الكوبي‘ استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، واستغلال البلدان النامية من قبل الرأسمال المالي الأجنبي.

وعليه، فإن ’الجمعية العامة الوطنية للشعب الكوبي‘ تعلن أمام القارة الأمريكية –وتعلنه هنا أمام العالم:

"حق الفلاحين بالأرض؛ حق العامل بثمرة عمله؛ حق الأطفال بالتعليم؛ حق المرضى بالرعاية الطبية والشفائية؛ حق الشباب بالعمل؛ حق الطلاب بالتعليم الحر والتجريبي والعلمي؛ حق الزنوج والسكان الأصليين ’بكرامة عيش الإنسان‘؛ حق المرأة بالمساواة المدنية والاجتماعية والسياسيّة؛ حق المسنّين بشيخوخة آمنة؛ حق المثقفين والفنانين والعلماء بالكفاح عبر أعمالهم من أجل عالم أفضل؛ حق الدّول بتأميم الشركات الاحتكاريّة الإمبريالية، لتنقذ بذلك ثرواتها ومواردها الوطنية؛ حق البلدان بالتجارة الحرة مع جميع بلدان العالم؛ حق الأمم بسيادتها الكاملة، وحق الشعوب بتحويل حصونها العسكرية إلى مدارس، وتسليح عمالها" –لأنه في هذا الأمر علينا نحن أن نكون من أصحاب نزعة التسلّح، تسليح شعبنا للدفاع عن أنفسنا من الهجمات الإمبريالية-، "وفلاحيها وطلابها ومثقفيها والزنجي والساكن الأصلي والمرأة والشاب والشيخ وكل المضطهدين والمستغَلّينن لكي يدافعوا بأنفسهم عن حقوقهم ومستقبلهم".

أراد البعض أن يتعرف على خط الحكومة الثورية الكوبية. هذا هو خطنا!

(تصفيق حاد)


 

الطبعات الاختزالية – مجلس الدولة

 

Versiones Taquigráficas - Consejo de Estado